كان الخلاف قد ثار بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد مبكرًا وقبل أن يصبح عمر أمير المؤمنين .
كان لعمر موقفًا حازمًا أبلغه للخليفة أبو بكر بعد معركة اليمامة وزواج خالد بامرأة مالك بن نويرة بعد أن قتله وقيل أن الأخير كان قد أسلم ودون قتال وقد رأى عمر أن ذلك تجاوزًا لا يستحق معه خالد أن يبقى قائدًا للجيش لكن أبو بكر رفض وصارت فجوة بين الرجلين . -عمر وخالد- لكنها لم تكن مثل نزاعات السياسيين التي تفرقهم المصالح .
كان الخلاف مبناه قيم يبدو أنها تناقضت في لحظة ما بين القائدين .
فبينما رأى عمر عزل خالد انتصارًا لمبدأ أن الغاية لاتبرر الوسيلة وحتى لا يتحول خالداً إلى فتنة بين الناس ... رأى أبو بكر أن إغماد سيف خالد -حتى مع هذا التجاوز- هو الفتنة في أوج صورها .
وبقى خالد قائداً للجيش طوال فترة خلافة أبي بكر وكذا فترة كبيرة من خلافة عمر .
لكن عمر عزله قبل أن يتم نصره في حروب الشام .
بل وكتب إلى أبي عبيدة يأمره أن يتقاسم خالدًا ماله نصفين ويقال أن خالد قد أحضر إليه نعلاه حتى يقتسمها وعندما قال له أبو عبيدة: إن هذا لا يصلح إلا بهذا فأبى خالد أن يخالف أمر عمر وأعطاه إحداها وأخذ الأخرى .. !
.
فما الذى حدث إذن وكيف اتخذ عمر هذه الخطوة التي يعزل فيها قائدًا مثل خالد لم يخسر معركة خاضها في جاهلية أو إسلام..!
هل كان الأمر مخططًا له أم أن عمر قد راهن على الصدفة ولماذا كان مطمئناً أن فتنة لن تشتعل؟
كان خالد بن الوليد قائدًا فذ لم يكن فقط يملك فراسة المحارب بل كان أيضا يمتلك دهاء السياسي وكان له أنصاره وكانت معه دائماً شعبيته وكان معه أيضاً تاريخه وقبيلته الضاربة في أعماق مكة ورغم ذلك انصاع هذا القائد إلى حد الوداعة وهو لم يكن كذلك أبداً .
ما الذى جعل خالد لا يتردد لحظة في أن يخاطب الرجل الذى قال له "صبراً أيها الأمير فإنها الفتنة" فيسارعه خالد بالقول: "أما وابن الخطاب حى فلا "
كان خالد يملك من المقومات ما يحمله على العصيان والتمرد ثم الفتنة .
عمر الخليفة القوى كان مرابطاً بالمدينة يدير شئون الحكم بوسائل تشبه في شكلها وسائل الحكم في العصر الحديث وكان جوهرها الذى يميزها الحق والعدل والمساواة والحرية وهى وسائل ليس بها سيف أو رمح
كان عمر الخليفة الأعزل الذى إن أراد أن يأخذ قسطًا من الراحة أخذه تحت شجرة وكان إذا أراد أن يرتدي ثوباً لا يكشف عن ساقيه أخذ ثوب ابنه عبد الله ومع ذلك لم تقم فتنة في عهده حتى وإن عزل خالد نفسه..!
لابد أن الذى حمل خالداً هنا على الانصياع ليس الخوف من بطش عمر إنما هو الخوف من عدل عمر..!
هنا تصبح القيمة التي صنعها هذا الخليفة أعظم من بطش السلاح وهنا تصبح القوة الناتجة عن الرجل ليست هى قوة البطش بل هى قوة الحق .
خالد يعبر عن غضبه وهذا حق.. يعبر عن نقمه وهذا أيضًا حق.. يقول بين الناس والله لقد آثر بها غيري وعزلني وهو يعلم أن الشق الأعظم من فتح الشام كان على يده..!
هو إنسان يجب أن يغضب
لكن غضبه كان تعبيراً عن صفة الإنسان فيه التي جلبت على إيثار الخير لها بصفة عامة ، فما بالنا عن المجد ذاته الذى تلألأ تحت وهج سيفه لكنه رغم ذلك لم يكن من هذا الغضب الذي يستطيل إلى أركان الدولة فيشيع فيها الفوضى والفتنة والانقسام .
هنا نستطيع القول أننا سوف نشاهد موقفاً فريداً في التاريخ .. !
القائد لا يكتفي بأن ينزل لرأي الخليفة بتسليم القيادة لمن خلفه فحسب بل أيضًا باقتسام ماله ثم مطلوب منه بعد ذلك أن يصير مجرد جندي في جيش بينما هو في الحقيقة قائد هذا الجيش وصانع انتصاراته ، ثم لا يخرج على الخليفة الذى لم يغادر المدينة يباشر شئون الحكم دون سيف أو رمح يعدل بين الناس في نهار ويطوف بين أروقتهم الساكنة في جوف الليل .
لعل هذه هى القوة التى خشيها خالد ... لعله أدرك أن عمر ليس هو الخليفة الذى تقع الفتنة في عهده . وليس هو الرجل الذى يرفع سيفًا في وجه قائد جيشه أو يرفع خالد السيف هو فى وجهه .
ليس هناك تفسيرًا لما حدث سوى أن خالد بن الوليد كان على يقين أنه ليس أمام الخليفة الذى تشتعل الفتنة في عهده وقد اشتعلت بالفعل بعده .
ما الذى تفعله قوة الحق ...!
وما الذى يصنعه العدل ... !
وما الذى يحققه الزهد في الحكم والتسامى على الشقاق والخلفة والنزاع ... !
إن الذى تصنعه كل هذه القيم هو ألا فتنة تقع هنا
في هذا العصر .
لقد علم هذا الخليفة من منذ وقت مبكر أن العدل يُصلح كل شئ ويستقيم به كل شىء وأن الطغيان هو الذى يبعث الفتنة ويجعلها مشتعلة موقدة .
ولم يكن قرار العزل هذا قد استأثر به خالد بن الوليد فقط
بل صنعه أمير المؤمنين أيضًا مع عمر بن العاص عندما استدعاه من مصر هو ونجله عندما شكوهما القبطى ويومها قال للقبطي:
" اضرب ابن الأكرمين " ثم أمره أن يضرب الوالى الذى لولاه ما جرؤ ابنه على أن يضرب الناس..!
لماذا لم يخش عمر هنا أيضًا أن يثور عليه عمرو بن العاص حاكم مصر بكل ما لها من مصادر قوة أظهرها هذا العامل الجغرافي الذى يغرى حاكمها على أن تراوده نزعة الاستقلال بها فى كل لحظة كما جرى ذلك في كل التكتلات السياسية الحديثة ... !
لماذا لم يخش عمر خالدًا أو عمرو
هل كان يفتقر إلى دهاء السياسيين أو إلى حكمة المحاربين .. هل كان مغامرًا لا يدرك عواقب أن يعزل قائد مثل خالد أو أن يأمر قبطي من آحاد الناس أن يصفع حاكم مثل عمرو وأن يصيح عمر فى وجهه
" بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "
إن الإجابة تكمن في هذه العبارة الأخيرة:
"بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "
لقد صنع عمر المعادلة الصعبة وعرف أن الذى يحمى البلدان من الفتن إنما هي قوة الحق وليس قوة البطش ... !
عاش عمر بن الخطاب ولم تقم فتنة في عهده .
لكن الفتنة قامت من بعده مثل نارٍ موقودةٍ لا تهدئ..!
وما عادت تهدئ ... !