إنَّها جِنانٌ يا أُمَّ حارثة!
إنَّها جِنانٌ يا أُمَّ حارثة!
أقرأُ بعض مقتطفاتِ السِّيرة الخالدة، فأحاولُ أن أتخيَّلَ تلكَ التَّفاصيل التي عاشها أبطالها ولم يشهدها أحدٌ ليرويها، أتخيَّلُ صبيحةَ غزوة بدرٍ حين ودَّعتْ أمُّ حارثة وحيدها حارثة، لم يكُنْ هناكَ وقتٌ لعناقٍ طويلٍ، صدرَ الأمرُ الذي صنعَ لهذه الأُمَّة مجدها على عُجالةٍ: يا خيل اللهِ اركبي! فركبَ حارثة في غمار من ركبَ!
المرأة لم تستكثر ابنها الوحيد على الله، حيثما أرادهم الله أن يكونوا كانوا!
وقبل نشوب المعركة أُصيبَ حارثة بسهمٍ غَرْبِ لا يُدرى أَأُطلقَ من معسكر المشركين أم من معسكرِ المسلمين! فاستُشهدَ على الفورِ، وجعلَ النَّاسُ يتحدَّثون إنّه لا شَهادة لحارثة! وانقضتِ المعركة التي سلَّ فيها الإسلامُ سيفه للمرَّةِ الأولى دفاعاً عن هذه العقيدة، وسيبقى مسلولاً لا يُغمده عدل العادلين ولا ظلم الظالمين حتى يُقاتل آخر هذه الأمة الدَّجال، ولا عزاء للخوالف!
ومنَّ اللهُ بالنَّصرِ، وبدأتْ طلائعُ الجيش المظفَّرِ تصلُ إلى المدينةِ ومعها أخبار المعركة، وبلغَ أُمَّ حارثة خبرُ ابنها، ومقالة النَّاسِ فيه، فخرجتْ هائمة، في صدرها نار الفقد وفوات الشَّهادة، وكانتْ إذا شبَّتْ نيران صدورهم جاؤوا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأتته، وقالتْ: يا رسول الله حدِّثني عن حارثة، فإنْ كان في الجنَّة احتسبتُ وصبرتُ، وإن كان غير ذلك ليرينَّ اللهُ ما أصنع، تقصدُ أنها ستنوح وتبكي ما بقيتْ في هذه الدُّنيا!
فقال لها مُعزِّياً إيَّاها ومُبشِّراً: يا أُمَّ حارثة إنها ليستْ جنَّةً، ولكنها جِنان كثيرة، وإنَّ ابنكِ قد أصابَ الفردوس الأعلى!
لن تُقهرَ أُمَّةٌ ترى الموتَ أوسعُ الجانبين وأسعدهما!
فيا أمَّهاتِ أُسود كتيبة الحُفّاظ، ويا زوجات ليوث قُوَّات النُّخبة، ويا أخوات أبطال العبور المجيد، إنها ليستْ جنَّةً ولكنَّها جنانٌ، فهنيئاً لهم ولكُنَّ، نحن الذي يجب أن تُقام لنا المآتم لا هم، من حطَّ رحاله في الجنَّة لا يُبكى، وإنما يُبكى من تقلبه الدُّنيا ظهراً لبطنٍ، يركضُ فيها لريِّ فرجٍ وبطنٍ!
أيها الآباء المكلومون بالفقد، والإخوة الذين يشعرون أنهم بفقد إخوتهم قد بُترَ شيءٌ منهم، تخيَّلوهم غداً إذا قام سوق الجنّة والنّار، وتخبّطَ النّاسُ، وشابتْ رؤوس الولدان، قد قاموا من بين النّاس بجراحم والدَّمُ ينعبُ كيوم مقتلهم، اللون لون الورد والرّيحُ ريح المسك، فأخذوا بأيديكم إلى الله وشفعوا لكم!
أيتها المكلومات بأطفالهنَّ، عند إبراهيم عليه السلام وسارة مأوىً لهم!
وتذكَّرنَ أّنه لم يكن بين الماشطة وأولادها والجنّة إلا العبور في زيت فرعون المغليّ!
ولم يكن بين رضيع الأخدود وأمّه والجنّة إلا لهب الأخدود!
كتبَ اللهُ أجوركم جميعاً، وإنما هي أيامٌ تمضي، وكفى بالجنّة عزاءً عن كلّ شيء!
أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطرية