الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

لا أخفيكم أنني أشعر في كثير من الأحيان وأنا أمسك بقلمي لأعبر عن فهمي ونظري ورأيي، أنني زعيم وقائد ومنظر يوجه الأمة والعقول والرأي العام لما يراه وينهجه.
وهو شعور منحه القلم لكثير ممن أحبوه وتعلقوا به.

نعم.. فاللقلم سلطان عظيم، وتأثير كبير، أقوى من تأثير الساسة والزعماء..ألا تراهم يحرقون كتب المفكرين ويصادرون أقلامهم، لأنهم يدركون أن الثقافة أقوى وأقدر، وأبلغ نفاذا وتأثيرا في الجماهير.!
لقبر عبر فولتير عن هذا الاحساس قديما حينما قال: «وما عليَّ إذا لم يكن لي صولجان؟ أليس لي قلم؟»
"وقد حق لفولتير أن يفاخر بقلمه كما يفاخر الملك بصولجانه؛ لأنه إذا كان للملوك ملك فلفولتير ملكوت، وإذا كان لكل ملك رعية مؤلفة من جميع الطبقات فلفولتير رعيةٌ راقية، مؤلَّفة من رجال الذهن في جميع أنحاء العالم، وإذا كانت الملوك تتفاضل بالأثر النافع الذي يتركه حكمها في رعاياها فأي ملك استطاع أن يؤثر في أذهان الناس بمقدار ما أثر وما سيؤثر فيها فولتير؟!
أجل، إن هناك ملوكية لا تتبوأ العرش المُذَهَّب، ولا تعقد على الرأس الإكليل المرصَّع، تلك الملوكية تكون بسعة الثقافة التي يشرف صاحبها على العالم، ماضيه ومستقبله، يرسم له مثله العليا ويوجِّه خُطاه نحوها، فقادة العالم الحقيقيون هم فلاسفتُه وعلماؤه الذين يرسلون صوتهم إلينا عبر القرون، فنسمع لهم، ونأتمر بأمرهم." هكذا علق سلامة موسى على قولة فولتير.
ومن هنا نشأت المفاضلة بين المثقف والسياسي، وعقدت المقارنة بين السياسة والثقافة.
ولهذا قلت وأقول دوما: الثقافة أقوى من السياسة، والمثقفين لا يقلون مجدا عن السياسيين.
هذا ما ذكرته يوما لصديق حدثني بائسا حزينا لأنه لم ينل حظه من موقع حزبي كان يرجوه.
وهذه الحقيقة التي نطقتُ بها ليست إفلاسا أو حيلة العاجز، أو محاولة للهروب أمام حظ تعس، أبدا أبدا.. لأنك لو نظرت في عجالة سريعة لكثير من السياسيين الذين انتهي بهم المطاف للعزل والاقصاء عن مناصبهم التي كانوا يتمتعون بها، فولجوا عالم الثقافة وخاضوا تجربة التأليف، لعلمت ذلك،  لقد كانوا من قبل يدوي اسمهم في عالم السياسة، وبعد موتهم، لا يتذكر الناس من أمرهم إلا كتبهم، التي خلدت ذكرهم بأقوى مما تذكره السياسة.
انظر لهيكل باشا، هل يذكر أحد من الناس موقعه الحزبي أو الوزاري؟
إن ذلك في عالم المجهول، ولكن الناس لا تذكره إلى الآن إلا بحياة محمد والوحي المحمدي والصديق أبو بكر، وغيرها من آثاره الأدبية، ولولا هذه المؤلفات لتورى هيكل باشا في عالم النسيان.
الأستاذ العقاد نفسه، كان سياسيا كبيرا، بل تساوى رأيه بآراء الزعماء وكانت مقالاته توجه الأحزاب، وتسقط الحكومات، وتعادي القصر والانجليز.
ولكنه هجر السياسة وتوجه للتأليف، فماذا أوجد مجد العقاد؟ السياسة أم الثقافة.
إن الفكر بلاشك هو صانع مجده ومن جعله عملاقا.
أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة، انتهى به المطاف بكاتب إسلامي بعدما كان اسمه يجلجل الدنيا.. فلم يفقد سلطانه وإنتقل من سلطان إلى سلطان أبقى وأدوم. 
يذكر مرة أن الملك فاروق قد أنعم برئاسة الوزارة لأحدهم، وكان الجميع يتوقع أن المرشح لها هو الدكتور هيكل لكنها لم تصبه، وشعر فاروق أن الاختيار قد أحزن هيكل، فأراد أن يواسيه ويسري عنه فقال له: لا تحزن ياباشا فلعل الوزارة تأتيك قريبا.
وهنا رد هيكل بما أدهش فاروق وعزز مكانة الثقافة ورفعها فوق عوالم السياسة فقال: يا جلالة الملك إنني حينما أجلس خلف مكتبي لأكتب بقلمي، فإن مناصب الدنيا كلها لا قيمة لها في عيني.
ولعله أراد حتى أن يستقل بهذا القول وظيفة الملك نفسه كملك.
والسياسيين الأذكياء هم من يدقون أبواب الثقافة لعلمهم أنها أدوم من السياسة وأعظم منها مكانة، وأقدر منها على ري أسمائهم لتبقى ملء السمع والبصر مشعة وضيئة براقة.. وقد رأينا المشير أبو غزالة يؤلف والسادات يؤلف وأمين هويدي يؤلف، وغيرتم كثير ممن كتبوا مذكراتهم وشهاداتهم كالفريق الشاذلي، والمشير الجمسي.
الثقافة للسياسي منجاة من الاكتئاب والموت، لأن أمثال هؤلاء تعودوا على سحر الشهرة وتعظيم الناس لهم، والاشارة إليهم بالبنان، وحينما يفقدون كل هذه الامتيازات الفخرية، يبدأ الشعور بالوحشة يداهمهم، وشبح الاكتئاب يفترسهم، وإذا لم يكن لأحدهم ثقافة يمكن لها أن تبقي على هذه المباهي، فإنه حتما سيكون ضحية للاهمال الذي يغتاله.
وحينما أنعم الملك على طه حسين بالباشوية، وجاء أحباؤه لتهنئته، قالوا له في محضر زوجته، بأيهما نناديك، الدكتور طه أم طه باشا؟
وهنا تتدخلت زوجته وصرحت بأنها تفضل طه باشا.. وهكذا تتخلى المرأة العجوز عن المركز العلمي الذي أوصل طه للمركز السياسي، والذي بقي منه بعد موته، ولا يذكره الناس إلا بالدكتور طه..أما طه باشا فلا يعلمها أحد.
لقد سال لعابها وراء المنصب، وكانت على العكس تماما من زوجة الحكيم، تلك المرأة التي كانت ترى المثقف أكبر من السياسي.
عندما ذهب الحكيم، إلى احتفال تم تنظيمه ليتسلم القلادة، قالت له زوجته: احذر أن تحني رأسك أمام عبد الناصر، وأنت تتسلم القلادة، كررتها أمامه أكثر من مرة فسألها الحكيم: وكيف لا أنحني برأسي أمامه، وهو رئيس الجمهورية، فقالت له في ثقة: أنت في عيوني أعظم من الرئيس، أنت أهم رجل في الدنيا، ولا تنس نصيحتي لك عندما ينادون على اسمك.
بل جلست أمام التليفزيون تنتظر اللحظة التاريخية، اقترب الحكيم، من عبد الناصر، في خطوات ثابتة ووقف أمامه كالصقر، لم تنخفض رأسه، وصافح الرئيس، وقامته مرتفعة ثم تسلم القلادة، ومازالت قامته مشدودة حتى عاد إلى مقعده وسط تصفيق الحاضرين.
وقالت زوجة الحكيم: "تابعته في التليفزيون ولاحظت أنه لم ينحن برأسه أمام الرئيس، وسعدت بذلك أكثر مما سعدت بالوسام".

تم نسخ الرابط