من يقرأ ويطالع اهتمامات القاضي بهاء المري رئيس محكمة جنايات مستأنف المنصورة، يشعر بمدى اهتمامه وانشغاله بالمحاماة وشؤونها وهمومها، فكان أدب المحاماة وبلاغتهم من الرعيل الأول هو ما دفعه للالتحاق بكلية الحقوق لكي يكون محاميا.
هكذا ترافع العظماء.. كان أحد مؤلفات القاضي بهاء المري، تخليدا لذكرى العظماء من المحامين، فكان هذا المؤلف هدفه لكي يكون مرجعا للأجيال الحديثة، فهؤلاء القدوة من الرعيل الأول، يجب أن تظل كتاباتهم ومرافعاتهم في ذهن كل ممتهن لأفضل وأقوى رسالة وهي رسالة الدفاع، ومن ثم جمع تلك المرافعات في كتابه لكي تظل ذكراهم مخلدة.
وعندما تطالع عزيزي القارئ كتابه قاض من مصر "سيرة ذاتية"، ترى أنه التحق بكلية الحقوق قاصدا أن يكون من بين المحامين المشهورين، وقد كان قدوته لدى تفكيره في هذا الوقت هو المحامي الكبير في ذلك الوقت، إبراهيم الهلباوي بك، نجم المحاماة الأول في عصره، حتى أن "المري" قد سرد في كتابه أنه كان يحفظ بعضا من مرافعاته وهو ما يزال في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية، ومن هنا كان عشقه لرجال المحاماة، وبلاغتهم وفصاحتهم وقوتهم في الدفاع.
ومن يطالع صفحته على "الفيسبوك"، يلاحظ أن القاضي بهاء المري قد نشر عليها بعضا من مواقف الذكاء والفطنة والحكمة التي كان يتمتع بها الجيل الذهبي من المحامين، وكيف كانت حججهم في إظهار الحق وتبرأة المتهمين في ساحات القضاء، ومنها الكثير من الكتابات التي تمجد قدامى المحامين وتؤرخ لبلاغتهم وفصاحتهم كحكاية اتله ومخدر شيخ البلد وعطيفي وضيفي وهي واقعات شهيرة في مرافعات مكرم عبيد.
وقد اخترت من بين تلك المرافعات التي دونها القاضي بهاء المري حكايات قضائية لـ مخدر شيخ البلد لكي تطالعوها وقد دونها قائلا" على الرغم من مشاغله السياسية كان مكرم عبيد باشا يتردَّد على مدينة قِنا مسقط رأسه؛ للمرافعة في محاكم الجنايات أو في بعض الجنح الهامة، ومما شاعَ بين الناس من مرافعاته الشهيرة؛ قضية "شيخ البلد".
في عام 1943 اتُّهم شيخ بلدة "المَطاعْنة" بإحراز مخدر الحشيش. أثبتَ الضابط في محضره أنه اشتمَّ رائحة هذا المخدر في جيب شيخ البلدة وهو يجلس على المقعد الكائن أمام مكتبه مباشرة، وهذه الحالة في القانون هي إحدى حالات التلبس التي تُبيح للضابط القبض على المتهم فورًا من دون إذن من النيابة العامة.
أجرَى الضابط تفتيشًا للمتهم أسفر عن ضبط قطعة من مخدر الحشيش في جيب عباءته.
اُحِيل شيخ البلدة للمحاكمة أمام محكمة "إسنا" وبجلسة المحاكمة طلب مكرم عبيد باشا من المحكمة مناقشة الضابط فوافقت على طلبه واستدعت الضابط محرر المحضر وبدا الرجل في مناقشته:
س: ما الذي دعاكَ إلى تفتيش المتهم؟
ج: شمَمْتُ رائحة مخدر الحشيش تفوح من بين طَيَّات ملابسه.
س: ما المسافة التي كانت تفصل بينكما؟
ج: حوالي نصف متر لأنه كان يجلس أمامي مباشرة وأنا على المكتب.
س: إذن لم تُدرك المخدر سِوى بحاسة الشم؟
ج: نعم.
وهنا تَوجَّه عبيد إلى رئيس المحكمة ليطلب تكليف الضابط بأن يشتم ملابسه لاستبيان ما إذا كان يحرز مخدرا من عدمه.
أومأ رئيس المحكمة للضابط فاقتربَ من عبيد مُلتصقًا بكتفه واشتمَّ ملابسه ونفى وجود مخدر معه.
وهنا أيضا كانت المفاجأة، أدخلَ مكرم عبيد يده في جيبه لتَخرج بقطعة كبيرة من مخدر الأفيون، وهو مخدر أكثر نفاذا في الرائحة من رائحة الحشيش ثم استكمل مرافعته قائلا:
- هذا أفيون.. وهذا الضابط قد التصق بكتفي واشتمَّ ملابسي ولم يكتشفه، فكيف نصدِّقهُ والمتهم لم يكن كتفه بكتفه؛ بل كان يفصل بينهما مكتب سعادة الضابط!
هَبَّ وكيل النيابة الحاضر بالجلسة ليُوجِّه إلى عبيد اتهامًا بإحراز مخدر الحشيش بغير قصد الإتجار أو التعاطي أو الاستعمال الشخصي فى غير الأحوال المصرح بها قانونا.
ثم كانت المفاجأة الأخرى. تبسَّم عبيد في ثقة بالغة وكانت إجابته أنْ أخرجَ من جيبه تصريحًا من نيابة المخدرات بإحراز الأفيون لمقتضيات الدفاع على أنْ يُعيده بعد انتهاء المرافعة.
رُفِعَت الجلسة لتعود المحكمة للانعقاد بعد المداولة مُعلنةً براءة شيخ البلدة.
فإذا كان هذا ما كتبه وأعلنه أمام الجميع، فهل يمكن أن يقصد من مجدهم، والمهنة التي عشق رجالها وفصاحتهم وبلاغتهم وأرخ لها في مؤلفاتها، وهذه كلمة نقولها في تلك الأيام المباركة لكي يعيد كل منا تفكيره فيما يقول.