القاضي بهاء المُري ناعيا الدكتور فتحي سرور: هكذا يكون العظماء
حَكى لي صاحب إحدى دور النشر بالإسكندرية أنَّ المرحوم الدكتور أحمد فتحي سرور، كان كلما حضر إلى الإسكندرية، ينزلُ في فندق سيسل المجاور للمنشأة، ثم يَمرُّ به ليسألَ عن الجديد في المؤلفاتِ القانونية، يُطالع ما صدر منها، وينتقي ما يَستحسنهُ.
وكنتُ أتعجب، كيف لهذا العالِم الجليل، الفقيه المبدع، الذي ملأ الدنيا فِقهًا وعِلما، يحرصُ في هذه السِّن المتقدمة على البحثِ عن الجديد والاستزادةِ منه. إنَّ هؤلاء الرجال لهمُ القدوة بحق، إذا ما تفكرنا في خِصالهم وأخلاقهم ومَناقبهم.
وتَـمُـرُّ السُنون، ويتصادف أن يكون بيننا ناشرٌ مُشترك (دار الأهرام للإصدارات القانونية) وما أن وقعت عيناه رحمه الله على مُؤلَفِنا (التحريات أبغض الأدلة في الإثبات) وراقَ له، حتى كتبَ كلمةً مُوجهة إليَّ أرسلها لي مع هذا الناشر، الذي حرَص على أن يُضمِّنها الطبعات التالية للكتاب ذاتِه.
ثم لما أن رغِبَ الدكتور سرور رحمه الله، في تحديث كتاب له ألَّفه في العام 1962 تحت عنوان (الجرائم الضريبية) ولم تعُد حالته الصحية تُعينه على ذلك، فقد رشَحني لهذا الأمر، طالبا من الناشر المذكور أن يقفَ مِنِّي على مدى تَوفُر الوقت لهذا الأمر من عدمِه، فاقترح عليه الأخير أن يُهاتفَني بنفسه، فرَحب بالفكرة واستحصلَ منه على رقم هاتفي وضرب مَوعدا للاتصال بي.
ولما أن مَرَّ الوقتُ المحددُ للاتصال، وفي كل يوم بعده يسألني الناشر عن مدى حصولِه أم لا، وكانت إجابتي: لا. راح يسأله رحمه الله فأجابه: لم أتصل به ولن أتصل، وسَلهُ عمَّا طلَبتُ منكَ.
ارتابَ الناشر وظنَّ أن الأمرَ قد جدَّ فيه جديدٌ، فسأله: لماذا وقد وافقتَ سَلفًا؟ فأجابه بأنه في أعقاب حوارهما ذاك، تَصادَف أن جاءته قضيةٌ من المنصورة سيترافع فيها، فتريَّث ليَعرفَ في أي الدوائر هي، قبل أن يذهبَ، ولما أن كانت في الدائرة التي أترأسُها عزَف عن الاتصال.
لم يُدرك ْالناشر هذا المعنى: فسأله مُتعجبًا: وما دَخلُ هذا بذاك؟ فأجابهُ الدكتور سرور رحمه الله: هذه أمورٌ لن تفهمها أنتَ، واسأله هل يُوافق على ما كلفتكَ به أم لا؟
ولما عَلمتُ بما دار على هذا النحو من تفاصيل، ما كان لمثلي أن يرفضَ لمثله هذا الطلب، لينالَ مثل هذا الشرف.
ولما أن انتهيتُ من تحديث الكتاب وأقرَّهُ للناشر، وجَّه إليَّ - هذا الذي نَهلَ من علمه ملايين الدارسين والباحثين والعاملين في مجال القانون بصفةٍ عامة - وجه إليَّ كلمة بهذه المناسبة أعتزُ بها اعتزازا يُزاحمُ تلك الكلمة الأخرى الخاصة بتقريظ كتاب التحريات أيَّما اعتزاز.
هكذا يكونُ المحامون. وهكذا يكونُ العلماء، يضربونَ لنا الأمثالَ في القدوة، فهل يتفكرُ أولو الألباب؟!