ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

         (الخامسة والعشرون)

تقول لنا صفحات التاريخ أن 
"يوتوبيا" الذى قدمها "توماس مور" -١- للضمير الإنساني تعد كما قيل بحق أثر فلسفي اجتماعي عظيم قدمها صاحبها  في قالب روائي جذاب استطاع من خلاله أن  يعالج أموراً مازالت تشغل أذهان المفكرين والفلاسفة ورجال الاجتماع حتى اليوم . -٢-
لقد اعتبرت "يوتوبيا" إحدى بشريات عصر النهضة بل ووثيقة هامة وتعبيراً صادقاً عن فلسفة مؤلفها وحبه للعلم والإنسانية كما قيل . 
كتب "توماس مور" يوتوبيا في قسمين .
القسم الأول: قدمه في صورة نقدية لاذعة لما ساد عصره من ظلم واستبداد وحب للسيطرة والحرب وهو العصر الذى انتهى ببزوع فجر عصر النهضة ثم قدم في القسم الثاني صورة شيقة متكافئة لعالم متوازن مثالي يقوم على اشتراكية الحياة ، يسوده العدل والإيخاء والمساواة وينعم أهله بالكفاية والاستقرار والسلام والمحبة . 
هنا في هذه الحلقة نطرح هذا السؤال:
هل أقام عمر بن الخطاب يوتوبيا؟
يبدو السؤال غريباً أو ربما متجاوزاً في نظر البعض أن نصف تجرية حكم إسلامية بأنها "يوتوبيا" ويرجع السبب في ذلك إلى أن الدولة التي أقامها عمر كانت مرجعيتها الرئيسية هي القرءان وما تركه الرسول من سنة فعلية أو قولية وشهدها عمر نفسه .
لكن الرد على ذلك يتمثل في أننا لا نتعرض في هذه الرؤية إلا ما صدر عن عمر من أدوات حكم ندلل على حيوية تطبيقها في وقتنا الحاضر وهذه هي الرؤية المعاصرة التي قصدناها كأثر يميز هذه الدراسة التي يدور محورها حول عمر بن الخطاب . 
هنا يمكننا أن نجري تلك المقابلة مع رجل حكم مدينة تحولت في عهده إلى إدارة مركزية  لدولة واسعة الأرجاء فكانت المدينة في حقيقتها مركز الحكم وعاصمته . 
يصف توماس مور في القسم الأول ليوتوبيا على لسان "رافائيل" العقوبات القاسية التي كانت تفرض على السرقة بما كان يترتب عليه انعدام العدالة بتلك العبارات:
"ذلك في الوقت الذي تعمل فيه الدولة على توفير العمل الشريف لأبناء الشعب ، فينما تعيش حفنة من الناس في ثراء ورفاهية ، إذ بأعداد كبيرة تدفعها الحاجة والفقر إلى السرقة . فمن عائدين من الحروب ومشوهين وغير قادرين على كسب عيشهم ، إلى خدم وأتباع يستغنى عنهم ساداتهم إما لمرضهم وعجزهم وإما رغبة في التوفير والاقتصاد ، إلى مزارعين طردوا من حقولهم وبيوتهم لأن رجلاً جشعاً يريد أن يضم عدداً من المزارع الصغيرة ويحيطها بسور ليستخدمها مراعي لأغنام تدر عليه ربحاً كبيراً ، وفي سبيل ذلك تشرد أسر بأكملها تبيع ما تملكه بأبخس الأثمان وبعد أن تنفق هذا القليل وهي تتنقل من مكان إلى آخر  بحثاً عن عمل أو مأوى تضطر كارهة إلى التشرد ثم السرقة أو الموت جوعاً .."
كان هذا نصاً في
"يوتوبيا" توماس مور . 
تعالوا نرى ماذا صنع عمر بن الخطاب . 
منذ اليوم الأول لبيعته هجر فرشاه .
تقول له زوجته وهو يتأهب للخروج عندما أرخى الليل سدوله على سكان المدينة:
إلى أين يا خليفة المسلمين ولم يكن قد سمى بأمير المؤمنين؟
يقول عمر: أتفقد أحوال الناس .
تقول زوجته: أمن أول ليلة؟
يقول: نعم .
ثم يخرج متكئاً على عصاه يصاحبه مولاه "أسلم" لكي يرى أصحاب الحاجة من رعيته .
هذه أم يحمل لها فوق كتفيه جوال دقيق يصنع الطعام لصغار يتضوعون جوعاً .
ثم يتمتم .. هلكت يا عمر ..!
هذا طفل رضيع لا يكف عن البكاء فيقول لأمه اسكتي الرضيع يرحمك الله فلا أم تفعل ولا رضيع يسكت فيعرف أن الأم تحاول فطامه لأن أمير المؤمنين لا يعطي غذاءً إلا لمن فطم .
فيقول لها اتركيه دون فطام وسيصرف له ولغيره من الرضع من بيت المال دون حاجة إلى اكراههم على الفطام .
ثم يتمتم: هلكت ياعمر. 
يزوج ابنه لابنة بائع اللبن التي راقبت الله في عملها قبل أن تراقب الحاكم . 
يصرف للكفيف اليهودي من بيت المال ويقول: لا خير فينا إن تركاناه .
ثم يتمتم: هلكت يا عمر .
يحمل زوجته على أن تساعد من فاجأها المخاض ولا امرأة معها. 
مازال الرجل يمسك سراج موقود من شعلة زيت يطوف الأرجاء حتى هجر فراشه وبات ليله مثل نهاره . 
عندما ضرب الطاعون المدينة كان وسط الناس يقاوم الموت نيابة عنهم .
وفي عام الرمادة يعطل حد السرقة .
كيف يوقع حداً دون أن يحصل الناس على كفافهم .
لم يلجأ عمر إلى صلاة الاستسقاء إلى بعد أن وضع تدابير الخروج من الأزمة ولم يأكل حينها غير الخبز والزيت .
فسقط المطر وخرجت الأمة من الأزمة . 
عندما صعد المنبر يسمع من يقول له:
والله لن نسمع لك إلا أن تقول من أين تحصلت على الثوب الطويل فيجيب عبد الله: إنه ثوبي .. نصيبي من بيت المال أعطيته لأبي لأن ثوب واحد لا يفي بستر جسده .. ! 
يأمر ابنه بأن يبيع ابله وهي من حر ماله وأن يضع المال بيت مال المسلمين حتى لا يقول الناس ابل ابن أمير المؤمنين .. !
يؤسس للشرعية الإجرائية التي كانت آخر حلقة في تطور الأنظمة القانونية عبر التاريخ .
يهدم ما جاء بكتاب الأمير . فلا غاية تبرر الوسيلة .
يخرج عن النص لأنه فهم محتواه:
لا نصيب للمؤلفة قلوبهم .. كان الإسلام في حاجة لتأليف قلوب ما عاد يحتاجها اليوم .. !
يقول لثلاث شهود جاؤوا بامرأة يريدون رجمها:
ارجعوا وإلا أقمت الحد عليكم . ويطلق سراح المرأة .. ! 
هل كانت يوتوبيا يا عمر .. !
هل كانت كانت مدينة فاضلة؟!
ماذا كان يدور بخلدك عن مفاهيم لم تتوصل إليها البشرية إلا عند عصر التنوير ..
الدولة .. الفصل بين السلطات.. تنظيم القضاء .. العدالة الاجتماعية .. الديمقراطية .. مكافحة الفساد الذى يقصم ظهر الأمم .. تجريم استغلال النفوذ الذي به خراب الأمم ..! 
مازال السراج متقد .. والأمير على عصاه متكئ وبصيص السراج يتوهج ليس لأن زيته كثر بل لأنه بالعدالة يتقد  .. !        
                 ————
-١- توماس مور أحد أهم الشخصيات المرموقة ومن أبرز رجال عصره علماً ونزاهة وإنسانية ومن خيرة أبناء إنجلترا وأعلم عمائها .
-٢- "يوتوبيا" كتبها توماس مور باللاتينية في عام ١٥١٦ ميلادية وسرعان ما ترجمت إلى العديد من لغات العالم .
أطلق مور على جزيرته المثالية من كلمتين يونانيتي:
topos و ou
ومعناهما لا .. مكان
ثم أسقط حرف الu
وكتبت الكلمة باللاتينية utopia وهي نفس اللفظ المستخدم في الإنجليزية والذى استخدمه في العربية بعض كبار المترجمين العرب من قبل .
————
-٣- هناك أعمال أخرى عالجت أمور مثل هذه:
جمهورية أفلاطون وكتاب السياسة لارسطو وآراء أهل المدينة الفاضلة للفرابي ومدينة الله للقديس أوغسطينوس .

تم نسخ الرابط