الإثنين 01 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

"إن حضارة الأمم لا تبقى إلا ببقاء عقول الشعوب حاضرة غير مغيبة ومتقدة غير منطفئة وحيوية بدواعي الاستمرار وليست جامدة بداء النقل"

"الخامسة والثمانون"

ربما كان من المناسب قبل أن نشرع في إجابة هذا السؤال أن نعود إلى أصل هذا المصطلح الغير عربي لكى نستكشف معناه عن قرب وحتى لا يبدو التساؤل بعيدًا عن التصور بما يمكن أن يشكله من نقلة بعيدة بين البيئة التي حكمها عمر وبين البيئة التى نشأ بها هذا المصطلح وهى بيئة اليونان القديمة .

الثيوقراطية إذن Theokratia تتكون من كلمتين مدمجتين في اللغة اليونانية هما "ثيو"وتعنى الدين "وقراط" وتعني الحكم وهو نظام حكم يُستمد مباشرة من الإله وما الكهنة ورجال الدين إلا وسطاء بينه وبين الشعب .

في هذا النظام تكون الكلمة الأولى والأخيرة للدين ولا شىء غيره .

انتقالًا من هذه الإشارة المقتضبة وقبل أن نجيب على التساؤل الذي طرحناه حول دولة عمر نعود إلى الوراء ثلاث عشرة سنة تقريبًا حيث مؤسس الدولة الأولى النبي محمد صلى الله عليه وسلم لنرى كيف كانت دولته .

رسول ينزل الله عليه الوحى يقول فيه الله تعالى في سورة النجم: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"

ويقول تعالى في سورة النساء: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"

ويقول أيضًا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"

لكن الله يقول له أيضَا فى سورة آل عمران: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"

وإذا وقفنا عند بعض الحوادث يمكننا أن نرى ما إذا كانت هذه الدولة دينية أم لا .

في غزوة بدر رجع الرسول عن رأيه ونزل لرأى صحابي وأقام بالجند عند موضوع الماء عندما سأله: أعن أمر من الله أم هو الرأي والمكيدة فأجابه الرسول بل هو الرأى والمكيدة ثم ثار نقاش كبير حول أسرى بدر وكيفية التصرف حيالهم بما ينبئ أن الأمر لم يكن مجرد سلطان ديني يتحكم فى مجرى الأمور .

وفى غزوة أحد تغير سير المعركة عندما خالف الجند تعليمات وأوامر قائدهم وفي غزوة الخندق شاور النبى أصحابه قبل اتخاذ القرار .

وفى صلح الحديبية بلغ الحوار بين الرسول وأصحابه ذروة حدته حتى أن عمر بن الخطاب عندما أخذته غضبة من شروط الاتفاق يسأل رسول الله:

" ألست نبي الله؟ "وعندما يجيب الرسول في أناة يقول: "بلى" يسأله عمر: "ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ "فيقول الرسول: "بلى"

فيقول عمر: "فلم نعطي الدنية في ديننا؟"

إلى آخر هذا الحوار الذى أظهرت الحوادث بعد ذلك أن ما انتهجه الرسول كان صوابًا وتكلل بالفتح المبين .

وكيف كان لحوار مثل هذا ليجري في ظل دولة دينية لا حوار ولا نقاش فيها.. بالتأكيد ليس من المتصور .

فإذا جئنا إلى عهد أبى بكر ونرى الخلاف الذى ثار بينه وبين عمر حول حروب الردة حيث تباينت وجهتي نظر الرجلين فيها .

الخليفة يقول: "لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم" بيننا يحاول وزيره أن يثنيه عن قراره بالحرب .

أيضًا وقع خلاف كبير بين الرجلين حول خالد بن الوليد . الخليفة يتشبث بخالد كقائد للجيش يقول لعمر: "لا أغمد سيفاً سله الله تعالى على المشركين" بينما عمر يرى أن التفوق العسكري للقائد لا يحصنه من العزل وطالما خالف قانون الحرب .

فكيف كان يتصور أن يأتي خلاف كهذا في ظل دولة دينية بالمعنى الذى أشرنا إليه .

من المؤكد لن يكون .

وفى ظل خلافة عمر كانت الشواهد كثيرة والحوادث ناطقة تعلن في وضوح أن دولة عمر ليست دولة ثيوقراطية على الإطلاق .

لم يأت عمر إلى الخلافة إلا بعد حوار وجدل طويلين بين أبي بكر وهو على فراش المرض مع أصحابه بل وأن منهم من تخوف من هذا الاختيار متذرعًا بغلظته وشدته . وعندما صارت الخلافة إليه طرح عنه كل مباهج الملك ونظر إلى حجم المسؤولية وكان نصب أعينه دائمًا هو أن يأتي بما يناسب طبيعة المتغيرات التى واجهته .

تغيير التركيبة السكانية والجغرافية كانت من أهم القضايا التي واجهت إدارته .

الشام وفلسطين والعراق ومصر تدخل حدود الدولة ولغات جديدة تدخل على العربية وأعراق جديدة تدخل على تركيباتها السكانية .

وولاة جدد يبعثون إلى الأمصار بعدما يحرر كل منهم ما يمكن وصفه" اقرار ذمة مالية"

كان عمر يحصي ما لديهم قبل أن يتولون مهامهم ومنهم كان الصحابي .

استطاع عمر أن يقيم العدل بين الناس بمفهومه الأشمل والأعم وأن يحرر العقل من الجمود الذى يمكن أن يعطل مسيرة الحكم .

كانت المدينة هي مقر الإدارة المركزية ولكن الحاكم آثر الشورى والحوار ولم يأنف أن يقول أمام الجمع: "أصابت امرأة وأخطأ عمر، وأن كل الناس أفقه منك يا عمر"

وكان هو القاضي فأطلق قريحته نحو تفسير مرن للنص غير ما ألفه الناس ومن هنا لم يعمل حد السرقة في شبهة ولم يعط المؤلفة قلوبهم فى عِزة واسترد أرض كان قد قطعها الرسول لأحدهم لحاجة الناس اليها .

ما أقام دولة عمر ليس هو السيف فقد عزل صاحب السيف ولا التسلط فقد كان الأمر شورى لكن العدل هو الذى أقامها .

كان بين قبضة الرجل أركان الدولة الحديثة من شعب وإقليم وحكم لكنه أضاف بعدًا رحبًا لمفهوم الدولة . فهذه الأركان ربما تقيم مكونات كما عرفها العصر الحديث فتبقى حقب من الزمان و ربما تفشل فتنهار وقد حدث هذا في التاريخ لكن هناك ركنًا آخر يحفظ للدولة كيانها هو العدل .

ثم يستمر في مسيرة التطور لينشئ الدواوين ويقوم بفصل سلطة القضاء عن سلطة الحكم فيما عرف في نهاية القرن الثامن عشر الميلادى على يد الفقيه "جان جاك روسو" بنظرية الفصل بين السلطات وإعلان قيم ومبادئ القضاء في رسالته الخالدة إلى أبى موسى الأشعري بما تبناه ميثاق الأمم المتحدة في منتصف القرن العشرين ولم يدر بخلده أبدًا أن يورث الحكم حتى أنه وهو فى النزع الأخير يقاوم أثر الطعنة في جوفه يلتقط أنفاسه لا لكى يولي عبد الله بن عمر من بعده بل ليصيح بصوت متهدج " كفى بآل الخطاب واحدًا"

يقول الدكتور طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" : ومن أجل ذلك أيضًا سخط عامة المسلمين على تورث السلطان في أيام معاوية وقال قائلهم: إنه جعلها هرقلية أو كسروية . فإذا دل هذا كله على شيء فإنما يدل على أن الحكم أيام النبي الذى كان يتنزل عليه الوحى، فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه بعد أن تقطع عن الناس خبر السماء"

كانت دولة عمر بعيدة كل البعد عن وصف الدولة الدينية أو الدولة الثيوقراطية بمفهوم العصر .

كانت تدار بكل وسائل الدولة الحديثة الشورى .. العدل بمفهومه الشامل .. الشفافية واحترام حقوق الأقليات العقائدية .. الفصل بين السلطات ..عدم احتكار السلطة وعدم توريثها .

لم يكن هناك حضورًا لرجل دين أيًا كان مسماه ليقوم بدور الوسيط بين السماء والأرض .

كانت هناك هوية عظيمة تجلت في نفوس الناس بأحكام الشريعة الغراء وكان هناك رجلًا أدرك قيمة العقل حتى أمام النص قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة وكأنه يترك لنا رسالة تقول: إن حضارة الأمم لا تبقى إلا ببقاء عقول الشعوب حاضرة غير مغيبة ومتقدة غير منطفئة وحيوية بدواعي الاستمرار وليست جامدة بداء النقل .

تم نسخ الرابط