السبت 29 يونيو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

أيها الشهر الكريم يعز علينا أن  تفارقنا بعد هذه الصحبة الروحية التي دامت مدة لم تبلغ من الطول ما يجعلنا نملها، ولم تبلغ من القصر ما يجعل علينا من السهل أن ننساها ، أيها الشهر الكريم إننا نودعك اليوم بعد انتظار، واستقبال، واستبقاء للذكرى . 

إن المتعة الرفيعة يستمتع بها الإنسان في ثلاث مراحل ،في ترقبها ،وفي تحققها ،وفي تذكرها ، ونحن قد استمتعنا  بترقبك حينما تشوفت نفوسنا للقائك منذ العام الماضي وأعددنا أنفسنا إعدادًا روحيًا لاستقبالك لترتفع بنا إلى درجة روحية لا تتحقق إلا في أيامك ، وقد استمتعنا بلقائك الفعلي حين مارسنا عبادةً لم يكن العمل الجسدي فيها إلا وسيلة لسمو ورفعة يقترنان بنهارك وليلك ، و سنستبقى لك في نفوسنا ذكرى جميلة لما فُزنا به في أيامك من طاعة الله تعالى ولما استطعنا احتماله من الجهد والمشقة ، ولما روضنا به أنفسنا على كبح الرغبات المشروعة عادة تدريبًا لنا على ضبط النفس وتربية الإرادة وتقوية العزيمة .

أيها الشهر الكريم إننا في أثناء العام قد تشغلنا أعمالنا ، وقد يتسرب التراخي إلى عزائمنا وقد تقسو في بعض الأحيان قلوبنا ، وقد تغلبنا رغباتنا فنميل إلى الإسراف ، وقد تضيق صدورنا فتنطلق ألسنتنا بما ينبغي أن يعف عنه لسان المسلم ، وقد يعبث سوء الظن بخبايا نفوسنا فيجنح بها نحو الشر ، وقد تتحكم فينا الأثرة فتضن نفوسنا وتنقبض أيدينا ، فإذا اقتربت منا اهتزت نفوسنا هزة روحية رائعة ، وما يكتمل شهر شعبان حتى تكون أعيننا وقلوبنا متطلعة لهلالك الذي يضيء أفاق نفوسنا كما يضيء سماءنا  ، و إذ يشع هلال نورك حتى يستوى بدرًا يضيء ظلمات حياتنا ويسمو بأرواحنا لتنعم بروح وريحان وجنة نعيم.

أيها الشهر الكريم لقد كنت شهر التقوى وشهر تجديد العهد مع الله على الأمانة والثقة بالنفس ،فالصيام من بين جميع العبادات يستسرُّ به العبد ولا يعلم أمره فيه إلا الله تعالى ،فالمرء فيه أمين على نفسه لا رياء فيه ولا تظاهر وفي ذلك تكريم عظيم للإنسان واحترام لشخصيته ورفع لمنزلته كما يقول رسولنا الكريم " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجزي به ".

ونحن حينما نذكر ما احتملنا من الصبر والمشقة نشعر بسعادة الطاعة لله تعالى ، كما أننا نشعر برحمة الله تعالى لمن لم يستطيعوا الصوم فرخص لهم الفطر مع القضاء أو الكفارة .

أيها الشهر الكريم لقد أتحت لنا فرصة التراحم والتواد فذكرتنا بذوي القربى ممن كانت الحياة الرتيبة تحول بيننا وبين زيارتهم و برهم فنعمنا بلقائهم وتشاركنا  فيما أنعم الله به علينا وسنذكر لك هذا الفضل دائمًا .

أيها الشهر الكريم لقد كنت شهر المساواة الكاملة بين جميع المسلمين فقد وحدت بينهم في الامتناع عن المفطرات طول النهار لا فرق في ذلك بين رجالهم ونسائهم أغنيائهم وفقرائهم علمائهم و جهالهم فقد اجتمعوا على عبادة واحدة بنظام واحد مدة شهر من الزمان .

أيها الشهر الكريم لقد كنت شهر البر والإحسان فقد كان رسولنا الكريم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان ، ولقد كان من البر في رمضان أن نقدم الصدقة لمستحقها في صورة كريمة لا تمتهن إنسانيته فنشركه في طعامنا عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام " مَنْ فَطَّرَ صَائمًا، كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أجْر الصَّائمِ شيءٍ."

أيها الشهر الكريم لقد كنت واحة رحيمة ظليلة في صحراء الحياة الصاخبة ، وقد أوينا إليك من هجير ذنوبنا فأويتنا ، وأدخلت على قلوبنا السكينة والطمـأنينة ، فنحن إذ نودعك نتذكر فضلك على سائر شهور العام بما فضلك به الله تعالى فنزَّل فيك دستور الهداية في الحياة القرآن الكريم  ﴿ شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ )

فيا ألله لا تحرمنا من نعمة الأُنس بك واجعل لنا في كل أيام حياتنا ما يقربنا إليك واشملنا برضوانك وأعد علينا شهر رمضان ونحن سائرون بُهداك مُوفَّقون لطاعتك ومُنعَّمون بقبولها اللهم آمين آمين يارب العالمين.…

تم نسخ الرابط