يمكنك أن تحسم قضاياك بالطريقة التى تروق لك.
يمكنك أن تُعمل بشأنها العقل والمنطق والحكمة والضمير وكل الملكات التى خلقها الله بداخلك وهنا تكون قد حسمت قضاياك بطريق المواجهة.
ويمكنك أيضًا أن تحسمها عن طريق "الهروب"
نعم الهروب!
الهروب من المواجهة إلى التواكل الذى تظن أنه من الإيمان وهو قطعًا عكس ذلك.
هذا الهروب يتخذ عندنا شكل الارتكان إلى الدين و هذا منطقى عند هؤلاء الذين لا يطيقون إجهاد أنفسهم بالتفكير على الرغم من أنه فريضة عظمى.
إذا أنت لم تقرأ ولم تبحث ولم تعكف وتثابر على علم فماذا تظن عن النتيجة..؟!
بالتأكيد سيكون هو الهروب هو الملجأ الآمن لك ولعقلك الذى أصابه الصدأ كما يصيب التروس التى لا تعمل.
هكذا صنع كثيرون عند ظهور فيروس كورونا المستجد.
لقد كان قرار هؤلاء الفاريين من المواجهة أسرع مما نتصور وكانت أحكامهم وكأنها أُعدت سلفًا للنطق بها فى مثل هذه الحالات دون سماع مرافعة ودون اطلاع ودون مداولة، فجاءت مبتسرة مجهلة لا ترابط بين أجزائها وفى النهاية وُلدت مشوهة الملامح.
الفيروس جند من جنود الله!
هكذا كان الحكم.
أُغلق ملف القضية بعدما جفت أقلامنا وطويت صحفنا.
رحنا بعيدًا عن دائرة الصراع وأخذنا مقاعد المشاهدين نرقب خشبة المسرح وهى تدور فوقها أكثر الروايات مأساة فى العصر الحديث.
إنه الصراع بين الحياة والموت فى أدق تفاصيله
سباق مخيف بين المعقول واللامعقول .. بين الواقع المؤلم وبين الخيال الذى يحاول أن يقنعنا أن هذا الذى يجرى أمامنا ليس أكثر من كابوس مخيف سرعان ما ينتهى بمجرد أن تعود يقظتنا من الموت.
لكن الواقع ينتصر وإذ بالكابوس لا ينقضى ثم تصفعنا الحقيقة فى النهاية وهى أن اللامعقول يحكم العالم..!
أوروبا صاحبة عصر النهضة يضربها فيروس مستجد لا يمكن أن يُرى بالعين المجردة.
وأميركا سيدة العالم باتت عاجزة عن استيعاب الضربة العظيمة.
فى ظل هذا لم يجد العالم سبيلًا إلا فى المواجهة آخذًا كل الأسباب الممكنة والمسخرة لبنى الإنسان.
تحولت المعامل والمختبرات والجامعات والمراكز العلمية إلى ما يشبه خلايا النحل التى تعمل فى إعجاز أو حتى قل مثل أسراب النمل التى تعمل فى أناة.
الجميع نزل حلبة الصراع لأنه لا بديل عن المواجهة ولن تكون حياة إلا بقدر ما نأخذه من أسباب.
لقد قرأت خبرًا على جريدة "ديلى ميل" Daliy Mail البريطانية يقول: ( ولقد تعمدت أن تكون ترجمتى دقيقة)
أن أستاذة جامعة اكسفورد يرجحون أنه وبنسبة ثمانين بالمئة فإنه سيكون متاحًا لقاح ضد فيروس كرونا فى غضون ثمانية عشر شهرًا..!
لقد لفت نظرى فى هذا الخبر الذى يحوى تفاصيل أخرى لا تخرج عن مضمونه عدة نقاط أشير إليها فى عجاله هى كالتالى:
أولا: أن هناك جامعة تقوم بدورها فى أدق الظروف التى تمر البشرية ولم تُوصد أبوابها بل ظلت معاملها ومختبراتها موقودة بوهج العلم والعلماء.
ثانيًا: التواضع فى استعمال مفردات مثل " من المرجح"
و " فى غضون" و " بنسبة ثمانين فى الفئة"
وهى مفردات تبتعد عن معنى اليقين الذى هو فقط من اطلاقات الله عز وجل.
ثالثًا: أن تحديد مدة ثمانية عشر شهرًا تفيد أن هؤلاء العلماء فى تلك الجامعة العريقة التى شاهدتها بالفعل سيظلون عاكفون هكذا طوال تلك الفترة حتى يقدموا للعالم وغيرهم من العلماء اللقاح وهم يشعرون أن هذا من أقدس واجباتهم نحو الإنسان.
هنا فى جامعة أكسفورد وغيرها جانب من العالم لكن هناك جانب آخر منه اكتفى بأن يصبغ القضية بصبغة دينية وأن يضعها فى إطار واحد لا تنصرف عنه هو أن هذا الفيروس
" جند من جنود الله"
هكذا حسموا القضية ناسين أو متناسين أن هذا الفيروس قد ضربنا أيضًا وأوقف شعائرنا.
لقد توقفت صلاة الجماعة بعدما أُغلقت المساجد وتغيرت صيغة الآذان تنبئنا بأن "الصلاة فى بيوتكم" وباتت ساحة الحرم خالية من الطائفين والمعتمرين وربما تتعطل فريضة الحج.
كل هذا أصابنا بينما نحن حسمنا الأمر واعطيناه صبغته المعهودة التى نحب دائما أن نرتكن إليها.
يأخذ غيرنا بكل أسباب الحياة ونكتفى نحن بأن نظل فقط على قيد الحياة..!
وظنى أن الله عز وجل ينظر إلى تلك المختبرات المتقدة ليل نهار من أجل الوصول إلى مصل يهزم هذا اللقاح بعين الرحمة والتبجيل، أو ليس هو القائل جل شأنه فى سورة فاطر "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"
فى مخيلتى دائما أن الله ينظر إلى الذين يأخذون بالأسباب دون هؤلاء الذين يكتفون بإلقاء تبعة ما يجرى لهم أو حولهم على القدر الذى هو من صنع الله.
أنا أعلم أن الله تحدث عن جنوده التى أرسلها إلى الأرض.
لقد كانت هى الملائكة فى غزوة بدر عندما أمسك المسلمون بناصية الأسباب وانتصروا لكنها كانت الهزيمة فى أحد عندما تخلوا عنها.
وأعلم أنها كانت الأرياح أرسلها الله ليفرق الأحزاب المتآمرة وأعلم أنها كانت تلك التى ضربت فرعون وجنوده.
أعلم ذلك وأصدقه لكننى فى المقابل أرى أنها جنود أُرسلت بعضها لأقوام أخذوا بكل الأسباب الممكنة فشدت على أيديهم ونصرتهم وآخرين تجبروا على الله فهزمتهم.
أعلم ذلك ..ومن هذا المنطق أقول بكل إيمان لديَّ أن جند الله سَتُرسل إلى هؤلاء الذين يوصلون الليل بالنهار متمسكين بكل ما لديهم من أسباب قبل الارتكان إلى المُسبِب وأن عدالة الله المطلقة ستتنزل عليهم وسينتصرون فى معركة البقاء كما انتصروا من قبل وقدموا لنا لقاح التيفود والكوليرا والملاريا وشلل الأطفال والسل وغيرها.
سينتصرون حتمًا لأن الله لا يأخذ بين المتقاعسين المتواكلين بل يأخذ بيد هؤلاء الذين عرفوا قدر الأخذ بالأسباب فأعانتهم قوة المُسَبِبْ..!
هناك صفحة مريرة فى تاريخنا العربى تقول أننا قمنا بتكفير عدد من قادة الفكر لا لشئ إلا لأن مفرداتهم جاءت عكس توقعاتنا وموروثاتنا.
وهكذا لم يسلم جابر بن حيان من تهمتى الكفر والذندقة.
يصفه ابن تيمية في كتابه “مجموع الفتاوى” بالقول: “وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عن الكيماوية، فمجهول، لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم، ولا بين أهل الدين”.
وهكذا صنعنا مع ابن الهيثم والفارابى وابن رشد
بل وصنعنا هذا مع ابن سينا الذى توصلت الأبحاث فى وقتنا الحاضر إلى صحة نظرياته (على الأقل الأولية) فى مكافحة الفيروس ومن بينها سياسة العزل والتباعد الاجتماعى( soial distanceing)
التى صنعها حاكم عادل قبل ذلك بقرون هو الفاروق عمر بن الخطاب عندما ضرب المدينة وباء الطاعون.
هل تذكرون عبارته الخالدة المفعمة بكل أشكال الأخذ بالأسباب وهو يخاطب أبى عبيدة وقد عدل عن دخول الشام الذى ظهر به الطاعون عندما سأله: أفرار من قدر الله يا عمر؟
إذ يجيب الفاروق" لو أن أحد غيرك قالها يا أبا عبيدة .. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله" ثم اتجه فورًا نحو الأسباب!
لم ينجو ابن سينا هذا العالم والطبيب والفيلسوف والقاضى من الرجم بالتكفير والإلحاد والذندقة.
لقد تركوا كل نظرياته ونسبوا إليه ما يمكن أن يعد به كافرًا منكرًا ولم يثبت هذا عن رجل وهب نفسه للعلم وللحكمة والفلسفة من أجل إحياء الإنسان.
لقد وصفه ابن القيم الجوزية في "الصواعق المرسلة" بـ"الملحد، بل رأس ملاحدة الملة"
وفى "إغاثة اللهفان" قال: إنه “إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"
هكذا صنعنا مع مختلفى الرؤية والرأى ..هكذا ولِجنا داخل صدورهم وقلوبهم لننعتهم بالكافرين الملحدين بينما كان جدير بنا أن نلج إلى عقولهم نأخذ بأوجه الإتفاق معًا ونتسامح مع أوجه الخلاف معًا.
أيها السادة.. جند الله باقٍ إلى يوم الدين لأن الملك كله لله لكنه لن يتنزل على من اكتفوا بالقول وهربوا من المواجهة.
سيتنزل هذه المرة عند مختبر عكف صاحبه على العلم قابضًا على ناصية الأسباب متجردًا فى عمله محتسبًا بأنه لله والإنسان.
إننى لا أَمَلُّ من تكرار مقولة انشتاين " إنى أُدين بالتبجيل كله لتلك القدرة العجيبة التى تكشف عن نفسها فى ضآلة جزىء من جزئيات الكون"!
ولا مقولة " ألفريد كاستلر" "إننا كلما أوغلنا فى دراسة المادة أدركنا أننا لم نعرف عنها شيئًا ... فسوف يظل دائمًا شىء فيها مخفيًا عنا" فلما سألوه: مخفى بمن" أجاب: بالله!
ستُصطر حروف التاريخ يوما ما قريب بأن هناك فى مكان ما بملك الله وعند صومعة عالم لا يهدأ طنين تجاربها قد وُجد اللقاح وسيكون عملًا مبجلًا عند الله ومقبولًا لديه و عندها ستُردد كل البشرية:
" وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"