الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد 
فإن الله تعالى أمر القادرين على العمل أن يكون لديهم عمل أو حرفة يتكسبون منها، ويعيلون أنفسهم وأسرهم من عوائدها، ابتغاء الرزق الحلال من الله تعالى ، حيث قال في كتابه العزيز : ( فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) الآية رقم 17 ، سورة العنكبوت  ، أي التمسوا أسباب الرزق من الله تعالى ، ثم اشكروه على ما رزقكم إياه . 
ولأن البطالة هي الطريق الموصل إلى كل المساويء والمثالب النفسية والصحية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات، فقد أمر الله تعالى التماس أسباب الرزق بالعمل المفيد ، والسير في الأرض ، قال تعالى ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) الآية رقم 15 ، سورة الملك، وهو عين التوكل على الله تعالى، وأخذ بأسباب الحياة.
وقد أمر ديننا الإسلامي الحنيف أن ينشغل الإنسان طوال حياته بالعمل النافع، والتكسب من طريق الحلال، واعتبر ذلك نوعا من أنواع العبادة والتقرب إلى الله تعالى، فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب 3/107 ،  وحكمه : صحيح 
وكما أمر الله المسلمين بالشعائر الدينية كالصلاة والصوم والحج ، أمرهم بأن ينشغلوا بقضية التكسب بالحلال فور الانتهاء من أداء الشعائر الدينية، قال تعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الآية رقم 10 ، سورة الجمعة 
والعمل وزيادة الإنتاج في أي مجتمع من المجتمعات هو سبب من أسباب قوتها ، واستثمار للطاقات البشرية القادرة على الإسهام في نهضة الدول ، وفي تاريخ الأمم والحضارات لم تنهض أمة بالكسل والتراخي والإدبار عن ميادين العمل وزيادة الإنتاج ، ولا تستقيم الحياة في أي أمة من الأمم  إلا إذا كان لديها ما يكفيها من إنتاج الغذاء والكساء والدواء وغيرها من مستلزمات الحياة ، ومتطلبات توفير حياة كريمة وآمنة . 
وينقسم العمل إلى عدة أنواع : فمنه ما ينتمي للوظائف الرسمية ، أو العمل في الدوائر والمؤسسات الحكومية ، وهناك العمل في المؤسسات والشركات الخاصة ، وهناك المهن الحرة التي يتكسب الإنسان قوته من خلالها ، وهناك من يمتلكون المشاريع الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة الذين نطلق عليهم في زماننا ( رجال الأعمال ) وأيا ما كان نوع العمل فإن المسلم لابد أن يتحلى بعدد من الصفات ليرضى الله عنه ، ويضمن كسب قوته وقوت عياله من مصدر حلال . 


أخلاقيات المسلم في العمل 
 

ومن هذه الصفات: الأمانة، بمعنى أن يتحلى الموظف أو العامل بالأمانة ، وأن يتقي الله تعالى، فلا يضيع الوقت  المخصص للعمل في غير ما خصص له ، فالحضور المتأخر إلى الدوام، أو الانصراف المبكر بغير عذر قهري هو أمر يتنافى مع أخلاق المسلم الأمين ، وكذلك التلاعب بطرق إثبات الحضور والانصراف أمر يتنافى مع خلق الأمانة الذي ينبغي أن يتحلى به الموظف أو العامل المسلم . 
ومن أخلاق العمل في الإسلام أن لا يتسخدم الموظف أو العامل أيا من موارد جهة العمل في غير ما خصص له ، فالذين يستغلون بيئة العمل لتحقيق منافع شخصية ، كاستخدام الحواسيب في غير أغراض العمل ، أو استخدام آلات الطباعة أو آلات التصوير على سبيل المثال لإنجاز الأمور الشخصية فيه إخلال بالأمانة، وقد ورد أن عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين رضي الله عنه كان يقابل أحد عماله وولاته، وكان يتحدث في الشأن العام، وهو يوقد شمعة من بيت مال المسلمين ( ملكية عامة) فلما سأل هذا الرجل عمر بن عبد العزيز عن حاله وحال أولاده أسرع عمر فأطفأ الشمعة، وأحضر شمعة أخرى صغيرة لا تكاد تضيء، ولما سأله عن سبب إطفاء الشمعة حين سأله عن حاله وشأنه قال: يا عبد الله إن الشمعة التي رأيتني أطفئها  من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك عن حوائجهم وأمرهم، فلما سألتني عن شأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين، وأوقدت شمعتي التي هي خاصة بي .


النهي عن التربح الوظيفي 
 

ومن الأمانة في العمل أن لا يحاول الموظف أو العامل استغلال موقعه الوظيفي أو منصبه  لتحقيق مكاسب شخصية ،وقد ورد(  أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ علَى صَدَقاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جاءَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحاسَبَهُ، قالَ: هذا الذي لَكُمْ، وهذِه هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وبَيْتِ أُمِّكَ حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صادِقًا! ثُمَّ قامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ رِجالًا مِنكُم علَى أُمُورٍ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي أحَدُكُمْ فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وهذِه هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وبَيْتِ أُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كانَ صادِقًا! فَواللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مِنْها شيئًا -قالَ هِشامٌ: بغيْرِ حَقِّهِ- إلَّا جاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيامَةِ، ألَا فَلَأَعْرِفَنَّ ما جاءَ اللَّهَ رَجُلٌ ببَعِيرٍ له رُغاءٌ، أوْ ببَقَرَةٍ لها خُوارٌ، أوْ شاةٍ تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْتُ بَياضَ إبْطَيْهِ وقال : ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟ ) صحيح البخاري ، الراوي : أبو حميد الساعدي ، رقم 7197.


النهي عن الرشوة 


ومن الأمانة أن يبتعد الموظف عن أخذ الرشوة تحت أي مسمى ، وأن لا يستغل موقعه الوظيفي للتكسب من عباد الله بغير وجه حق ، وإن الذين يملئون بطونهم وبطون أبنائهم ومن يعولون من هذه الطريقة فإنما يأكلون من الحرام ، ويبعدون عن أنفسهم رحمة الله تعالى ورضوانه ، وقد ورد في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ( لعَن اللهُ الرَّاشيَ والمُرتشيَ ) رواه ابن حبان 5077 عن أبي هريرة وإسناده قوي 

ومن أخلاق العمل في الإسلام أن يتقن الموظف عمله ، فليست العبرة بأن يقوم الموظف بالحضور بجسده دون أن يقوم بتحقيق أهداف المؤسسة أو الشركة ، أو أن يتهرب من الأعمال المهمة التي تسهم في تحقيق أهداف المؤسسة ، وتسهم في زيادة الإنتاج ، أو لا يكترث بتطوير مهاراته الوظيفية التي تجعله يحقق الإنجازات في عمله ، فقد وعد الله هؤلاء الذين يبدعون في أعمالهم بالجزاء الوافر في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) الآية رقم 30 ، سورة الكهف  ، وإحسان العمل إتقانه ، والتفاني في أدائه على الوجه الأكمل ، وهذا الوعد الإلهي يمكن حمله على كل من العمل الدنيوي والعمل الأخروي ، فضلا عن كون العمل الدنيوي يمكن اعتباره في نفس الوقت عملا أخرويا ، حيث أن ( العمل عبادة ) على النحو الذي أوضحه الحديث الشريف الوارد في صدر هذا المقال .
وكذلك فإن الموظف أو المسئول الذي يتقن عمله ، ويبدع في إنجاز المهام الموكلة إليه ، فإنه مبشر بحب الله تعالى له ولصنيعه ، حيث جاء في الحديث الشريف : (  إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) أخرجه أبو يعلى والطبراني ، وصححه الأباني نظرا لشواهده  .


عدم تسميم بيئة العمل 
 

ومن أخلاق الإسلام : أن يتحلى الموظف أو المسئول أو العامل بالحرص على  خلق بيئة عمل صحية مواتية لزيادة العمل والإنتاج ورفع جودة السلع والمنتجات أو الخدمات التي تقدمها الشركة أو المؤسسة ، ولا يقوم بنقل الشائعات أو الأخبار الكاذبة بين الموظفين ، أو يقوم بالدسائس بينهم ، حيث إن بيئة العمل المسمومة لا تفرز نجاحا ، ولا تحقق هدفا ، ومن أسباب تنمية بيئة صحية للعمل : التعاون مع زملاء العمل  ، وتنمية ثقافة العمل الجماعي ، وتحقيق تواصل إيجابي مع الزملاء في بيئة العمل ، والتشجيع على التعاون لإنجاز المهام بين الإدارات والأقسام المختلفة ، وإثابة المتميزين في بيئة العمل لخلق حالة من التنافس المحمود بين منتسبي المكان . 


استيفاء الحقوق 


ومن الأخلاق الحميدة التي ينبغي أن يتسم بها صاحب العمل أو الإدارة العليا في أي مؤسسة ، أن يتجنب تحميل العمال والموظفين فوق طاقتهم ، وأن يبادر بتقديم البرامج التدريبية التي تعمل على تنمية مهاراتهم وتحسين أدائهم الوظيفي ، وأن لا يبخسهم حقهم من التقدير الأدبي والمعنوي الذي يعني الكثير لدى الموظفين ، وأن لا يبخسهم حقوقهم المشروعة والمكفولة باللوائح والقوانين والأعراف ، وأن لا يؤخر دفع مستحقاتهم المالية وأجورهم ، أو يماطل في دفعها لهم  ، وقد نهى نبينا – صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : (ثلاثةٌ أنا خصمُهُمْ يومَ القيامةِ ومن كنتُ خصمَهُ خصمتُهُ : رجلٌ أَعْطَى بي ثم غدرَ ، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكلَ ثمنَه ، ورجلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفَى منهُ ولم يُعطِهِ أجرَه ) صحيح البخاري ، 2227 ، رواه أبو هريرة 
إن التحلي بأخلاق العمل التي نادت بها الشريعة الغراء كفيل بأن يهيئ لأمتنا خيرا عظيما من وفرة الإنتاج وجودته ، ومن ثم تحقيق الاكتفاء الذاتي في كثير مما يحتاجه الناس  ، وكفيل بتحقيق نمو كبير في الناتج القومي للدولة ، وتناقص في أعداد البطالة ، وتناقص في نسبة الاعتماد على الاستيراد الذي يضغط على قوة اقتصادنا وعملتنا ، ويحقق ما نصبو إليه جميعا من تقدم ورخاء ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .

تم نسخ الرابط