كنت؛ ولازلت أدهش لإقامة السرادق وسط شوارع الإسكندرية يوم الجنازة ويوم الأربعين وفي ذكري الوفاة، حيث يقام سرادق كبير يتكلف مبالغ كثيرة، حتى لو كان أهل المتوفى فقراء، فقد اقتضت العادة أن يقام السرادق ولو اقترض أهل المتوفى ثمن إقامته، ولو كان قد ترك وراءه أطفالا صغارا في أشد الحاجة إلى المال.
وأذكر عندما عملت في شركة الورق عام 1968، أن جاء أحد موظفي المصنع طالبا سلفة ليقيم سرادق لذكرى وفاة والده الذي مر عام على وفاته، ونصحه البعض بألا يفعل هذا، فليس في الدين إقامة السرادقات والأربعين والسنوية، وكان يرد في صوت مرتفع: يا ناس ده أبويه.
واقترح البعض عليه أن يقيم السنوية في شقته توفيرا للمصاريف، لكنه صاح عاليا مرة أخرى: ده أبويه يا ناس.
وحصل على السلفة التي خصمت من راتبه لأكثر من عام.
وأذكر عندما مات عمي، وقد وضعوه في حجرة مغلقة إلى أن يحين موعد خروجه من البيت، أن جاءت امرأتان توقف حملهما، فاستأذنتا من زوجته التي وافقت على مضض، وسمحت لهما بدخول الحجرة، فدخلتا معا وهما ترتعشان من الخوف، فهما وحدهما مع الميت، وسارت كل منهما إلى الخلف؛ على يديها وقدميها في اتجاه الجثة، وكلما اقتربتا منها زاد خوفهما، حتى لمستا بجسديهما جثة الميت فصرختا. وهكذا حلت مشكلتهما، فالخضة أزالت العائق الذي يمنعهما من الخلفة.
ويأتي المعزون، يصافحون كبار أهل الميت - الذين يقفون إذا ما رأوا معزيا آتيا، ويظلون هكذا لوقت متأخر من الليل، مما يؤدي إلى التعب من كثرة الوقوف والجلوس، وخاصة أن معظمهم من كبار السن.
ويجيء الساقي مرتديا بذلة سوداء وببيونة سوداء، حاملا صينية فوقها فناجين من القهوة السادة؛ يمر بها أمام المعزين (ويحدث دائما ألا يغير ما بداخل الفناجين طوال فترة العزاء) فلا تمتد يد إلى الصينية، والغريب أن الساقي يعلم مقدما أن لا يد ستمتد ناحيته، ومع هذا يمر ويلح، هذه هي التقاليد.
ولو حدث ومد (معزي) يده وأمسك فنجانا، ربما لأنه غريب ولا يعرف عادات وتقاليد المنطقة، أو متمرد على هذه التمثيلية السخيفة، لو حدث هذا؛ سينظر إليه المعزون في دهشة واستنكار، وسيظلون يتحدثون عما فعله لأيام وشهور، وربما صارت سبة له ولأهله لسنوات طويلة، فذلك دليل سفه ورعونة.
ولو كان المتوفى شابا، فهذا معناه أن ذلك الذي تجاسر وشرب فنجان القهوة؛ أتى إلى السرادق خصيصا ليشمت في أهل الميت.
وعندما ماتت أمي عام 1956 أقامت جدتي السرادق أمام باب بيتها لمدة ثلاثة أيام، كانت مقيمة داخله، تأتيها النسوة في النهار، ثم تنتقل إلى دخلة البيت، لكي يتلقى الرجال العزاء. وامتنع البيت كله عن إشعال البوابير، كل طعامنا نشتريه من السوق، وعندما اشتقنا إلى أكل الطبيخ ذهبت مع خالي الذي كان يكبرني بعام لنشتري الملوخية والبطاطس المطبوخة باللحم من شارع " شجرة الدر " الممتليء بدكاكين الطباخين، وكان الطبيخ ساخنا جدا، فانقلب على ذراع خالي، وظل يؤلمه لأيام عديدة.
ويحدث أن يمتنع أهل البيت عن أكل اللحم لمدة طويلة منتظرين من أهل الميت أن يبدءوا بهذا، لكي يتبعوهم. الطريف في الأمر أن أهل الميت كانوا يفعلون مثل الآخرين، فيأتون بالسدق والكبدة.. الخ يطهونها مساء، ويأكلونها سرا، وإذا دق الباب يخفونها تحت السرير لكي لا يراها الزائر.
وبعد انتهاء العزاء؛ يرفع عمال الفراشة ما أقاموه، ويحملون ذلك الصرح، ويتركون قطعة قماش؛ عادة ما تكون قديمة، وذلك لتكون " دروة " للنسوة اللاتي سيأتين في الصباح للعزاء (يقام عزاء السيدات في الإسكندرية داخل البيوت، ولكن في الأحياء الشعبية لا تكفي البيوت – عادة – لاستقبال العدد الكبير من المعزيات، فيقيمونه في الشارع داخل سرادق صغير.)
ويسمى اليوم الأول بالصبحة، تأتي فيه النسوة صباحا، تحمل بعضهن طعاما لأهل المتوفى يتكون عادة من الخبز والزيتون والجبن. والبيض المسلوق لذلك كان أحد أقاربي إذا ما وجد الطعام في البيت ؛ بيض مسلوق ، يقول معترضا وساخرا: هو فيه حد مات ؟!
واليوم الثاني راحة، لا يقام فيه عزاء. أما اليوم الثالث فيسمى (الفرق) فتأتي فيه النسوة كما في يوم الصبحة، ويحدث هذا أيضا في أيام الخميس الثلاثة التالية للوفاة، حيث يصنع أهل المتوفى (القرص) المصنوعة من الدقيق والزيت، وقد كنا ننتظر مساء يوم الأربعاء؛ مجيء النسوة حاملات السلال المغطاة بالفوط، لكي تذهب بها جدتي صباح الخميس لتوزيعها على من معها من نساء وعلى المقرئين والمتسولين في مدافن العمود، والسلال بها فاكهة الموسم، كل امرأة بمستواها.
وقد كنا نهتم بسلة تأتي بها امرأة تسكن البيت المواجه لبيت جدتي، زوجها تاجر ورق دشت، كان في ذلك الوقت أغنى رجل في المنطقة، وزوجته مشهورة بالإسراف والمباهاة، لدرجة أنها كانت ترمي لحم الفراخ في الزبالة، لكي يحكي الزبال - وهو من المنطقة – عن ذلك.
كان في سلتها تفاح أميركاني، تشتريه من محطة الرمل، وفواكه غالية، لم تكن جدتي تأخذ مما في هذه السلة إلى المدافن، كانت تبقيه وتوزعه على من في البيت. وكنا نتمنى أن تمتد الخمسان لأكثر من ذلك حتى نستمتع بما تأتي به هذه المرأة، وإذا حضرت امرأة الخميس الأول فلابد أن تكمل الخمسان الثلاثة، لأنها لو امتنعت عن الذهاب في واحد من الاثنين الباقيين، فذلك فأل سيء لأهل الميت، فقد يموت لهم فقيد آخر في وقت وجيز.
وفي الأربعين يقام سرادق مماثل للذي أقيم يوم الجنازة، وتوزع لقمة القاضي ( الزلابية) على السيدات اللاتي تحضرن العزاء في البيت، بشرط ألا يكون المتوفى شابا.
ويمتنع الرجال عن الاقتراب من نسائهم حزنا على الفقيد، وقد ماتت والدة زوجة زميل لنا، وزارتهم زميلتنا في العمل للعزاء، فقابلتها زوجة زميلي مع أخواتها السيدات، وكن حزانى على فقد أمهن الغالية، لكن زميلتنا قالت لهن "فكوا الحزن."
فلم يفهمن قصدها، فشرحت لهن مقصدها، وحكت عن أختها التي مات والد زوجها، فجمعت زوجته نساء أولادها الأربعة، وقالت لهن " كل واحدة تدخل حجرة نومها مع زوجها لكي تفك الحزن."
لكن زوجة زميلي وأخواتها غضبن منها، واعتبرنها تتدخل في شئونهن، ولا تراعي مدى حزنهن على أمهن.
بعض المعتقدات الأخرى
• عند آذان المغرب تهرع النسوة لإضاءة مصابيح الحجرات؛ حتى لو كانت خالية، وذلك لتضيء للملائكة.
• قبل أن ترمي النسوة الماء الساخن في دورات المياه، يبسملن ويستعذن من الشيطان الرجيم حتى تنصرف الشياطين فلا يؤذيها الماء الساخن.
• إذا اقترضت امرأة من أخرى "غربال" أو إناء يستخدم للأكل؛ فلابد أن تعيده إليها وداخله قطعة خبز حتى لا تزول البركة من البيت.
• إذا "خربشت" القطة في الحصير، فلابد أن ضيفا آتيا في الطريق.
• إن في يوم الجمعة ساعة نحس، وهي وقت الصلاة ، فتخشى المرأة فيها على أطفالها من أن يسيروا في الطرقات حتى لا تدهمهم السيارات، ولا ينظرون من النوافذ والشرفات حتى لا يقعون في الشارع.
• إن قص الأظافر مساء يولد الشر.
• مسح البلاط بعد خروج المسافر من البيت فأل سيء، فالبلاط يمسح عادة بعد خروج الميت من البيت.
• يمسح بلاط الشقق الجديدة والمحلات الكاسدة بماء البحر.
• تغسل قدما الفتاة العانس بماء (الرِّجْلة) حتى يفك عكسها؛ فتتزوج.