الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 أهل مكة كانوا متفرقين في جزيرة العرب، فجمهعم فيها رجل يدعى " قصي بن كلاب" وهو الجد الرابع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاتخذوها مسكنا لهم، لذا أطلق عليهم: " قريش" لأن التَّقّرُّشَ يعني:التجمع، يقال: تَقَرَّش القومُ أي:تجمَّعوا. لسان العرب/ ق ر ش
 وكان قصيُّ رجلا واسع الحيلة فاستطاع أن يأخذ مفاتيح الكعبة  وتكون له الولاية عليها بعد ما تزوج ابنة "حليل" آخر ملوك خزاعة التي كانت تحكم مكة وكانت مفاتيح الكعبة بيده.
 وكان الواحد من قريش إذا أصابه الجوع خرج مع عياله وضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا،إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف ابن قصي الجد الثاني للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجمعهم على رحلتين للتجارة شتاء إلى اليمن، وصيفا إلى الشام فربحوا، فلم يكن في العرب أحدٌ أعزَّ ولا أكثرَ مالا منهم.
 وإنما كان ذلك بترتيب الله وتدبيره لهم،فمكة واد غيرِ ذي زرع ، لذا لما أسكنَ فيها إبراهيمُ عليه السلام زوجه السيدةَ هاجر وولدَها إسماعيل بأمر الله تعالى دعاه بعدما تولى عنهما قائلا:" رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ"إبراهيم/37
 وكان المقصد الأسمى من دعوته أن يكون ولده إسماعيلُ ومن بعده ذريتُه دعاةً لما وُضِع لأجله أول بيوت الله في الأرض،ولا يتحقق ذلك إلا بإقامتهم عنده،فدعا الله أن يوفر لهم أسباب تلك الإقامة فلا يضطروا إلى الارتحال عنه والهجرة منه إلى بلد آخر تاركين خلفهم بيت الله .
 وهو في دعائه لم يكتف بطلب أسباب الإقامة فحسب بل دعا لهم بأن يكونوا مرفهين في هذا المكان حتى لا تطْمح نفوسُهم إلى الشمال أو الجنوب حيث الجنان والثمار في الشام واليمن فقال :" وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ"أي:من جميع الفواكه المعروفة للناس في شتى بقاع الأرض،وهي غير ما يقتات به من الحبوب.
  فكان المشروع الإلاهي الذي تمثل خط  التجارة بين الشمال والجنوب لتكون مكة مركزا يتوسطُه،فتُنقل بضائعُ الجنوب إلى الشمال وبضائع الشمال إلى الجنوب،زيادة على كونها مركزا دينيا للزائرين من كل مكان .
 لم يكن هذا المشروع ليتحقق بعيدا عن تيسرات الحق سبحانه فالطريق بين الشمال والجنوب طويلة مفعمة بالمخاطر،إلا أنهم أمِنُوا فيها وأمِنَتْ تجارتهم بتأمين الله لها،فهم كانوا أكلةَ رأس، ليس لهم من الجند ما يؤمن تلك الطرق.
  لذا يمتن الله ويذَكِّر بذلك قائلا في سورة قريش:" لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ .إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ.فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ.ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ".
 رحلةَ الصيف إلى الشام،ورحلةَ الشتاء إلى اليمن في الوقت الذي كان سائر العرب يُغِيرُ بعضُهم على بعضهم، ولا يُغِير على قريش ولا على تجارتهم أحد؛كونهم أهل الحرم وجيرانُ بيت الله.
 فكان هذا المشروع قوامَ حياتهم وسرَّ بقائهم عند بيت الله لأنه جلب ثمرات كلِّ شيء إلى تلك الأرض القاحلة، قال تعالى :"أَوَ لَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ"القصص/57
هناك من يحاول سرقة هذا المشروع،ليُحِلَّ محله رحلة الشرق والغرب.
إن خط التجارة الذي رسمه رئيسُ وزراء إسرائيل على شاشات التلفزيون يربط دبي بإسرائيل مرورا بالسعودية،أو ما شاع من عزم إسرائيل على إنشاء قناة موازية لقناة السويس تربط خليج العقبة بالبحر المتوسط.
كلُّها خطوط إلهاء عن المشروع الحققيقي الذي تعتزمه إسرائيل بالتنسيق مع إيران يتمثل في الربط البري بين طهران والبحر المتوسط مرورا بالعراق والأردن ما يجعل إسرائيل مركزا تجاريا ضخما يفوق دبي .
وهذا ليس بغريب فالتاريخ يقول إن " كورش العظيم" ملك الفرس(إيران) بعد هجومه على بابل (العراق) وانتصاره على ملكها "بختنصر" الذي كان قد أحرق أورشليم (القدس) وأسر جل بني إسرائيل وقادهم إلى سجون بابل هو الذي تفضل على عزير فأطلقه من الأسر وبعد مفاوضات أطلق معه سراح بني إسرائيل وأذن لهم بالرجوع إلى أورشليم وذلك في سنة 451 قبل الميلاد، فالتحالف بينهم قديم .
ولمحاولة لتنفيذ ذلك المشروع :
ـ تقوم إسرائيل وإيران وبمعاونة حلفائهما من الحوثيين بتعطيل خطوط التجارة في بحر العرب وباب المندب مع ظهور القوى العالمية أعجز من أن تقوم بحماية تلك الممرات،فيكون العالم مضطرا للبحث عن طريق آخر .
ـ قامت إسرائيل وحزب الله بتعطيل خط التجارة من الشمال للجنوب المتمثل في حركة نقل البضائع برا من تركيا وسوريا ولبنان إلى دول الخيج مرورا بالأردن بهدف تضييق الخناق على الأردن الذي تمثل عملية مرور البضايع عبر أرضه دخلا رئيسا له،فلا يكون في المستقبل عقبة لهذا المشروع عند طرحه للتنفيذ.
ـ قامت إسرائيل مع حماس بهدم وتدميرغزة تمهيدا لإنشاء ميناء ضخم في غزة ليكون مرور الطريق بالأردن ثم جنوب الضفة وصولا إلى غزة بعيدا عن التكتلات الاستيطانية والمناطق الزراعية التي ستعترضه لو مر شمال الضفة. 
ـ قامت إيران بما أطلقته من ألعاب نارية أشبه ما تكون بالألعاب النارية التي تطلقها حماس بالآتي :
ـ التغطية على تدميرغزة،فالعالم أصبح مشغولا باعتداء إيران الوحشي وغير المسبوق على اسرائيل بدلا من انشغاله بحقوق الإنسان في غزة.
 ـ إعلام الأردن وبصورة مباشرة أنه في مرمى النيران الإيرانية حال رفضه عبور ذلك الطريق من أراضيه ، فالتهديد الحقيقي كان للأردن وليس لإسرائيل .
 وستظهر إسرائيل وحلفاؤها أمام إيران وأمام هذه الألعاب التي أطلقتها كما يظهر القط أمام الفأر لتُمْلي إيران شروطَها على إسرائيل بالسماح لها بمرور قوافل الإغاثة من طهران إلى أهل غزة مرورا بالعراق الذي بات تحت سيطرة إيران، والأردن المغلوب على أمره وإسرائيل التي لا تستطيع الوقوف في وجه إيران.
وبذلك يكون الطريق قد أصبح أمرا واقعا ليتطور ويصبح ممرا عالميا لرحلة بين الشرق والغرب مركزها إسرائيل فضلا عن وصولها لعمق آسيا ووصول إيران إلى البحر المتوسط .
  فهل يستطيع الشعب الإيرني أن يتهم قياداته في ظل هذا السيناريو بالتعاون مع إسرائيل؟ وهل يستطيع الشعب العراقي أو الأردني أن يمنع قوافل الإغاثة إلى غزة؟.
 لقد أدركت القيادات المصرية الواعية في وقت مبكرهذا السناريو الذي يضع الإنسان والقيم والمبادئ تحت أقدام المصالح فأبت على الصعيد الأخلاقي أن تساوم على تاريخها المشرف في الدفاع عن القضية الفلسطينة عندما رفضت المشاركة في هذا السيناريوا بقبول تهجير أهل غزة ، وأعلنَ ذلك الرئيس السيسي وبصراحةٍ غير مسبوقة في تاريخ السياسة العالمية عندما قال: إن مصر يعيش على أرضها أكثر من تسعة ملاييين ضيف، فلن تتأذي بقبولها أهل غزة،لكن تهجيرهم يعني ضياع أرضهم وموت قضيتهم وقد وعى أهل غزة ذلك جيدا فسطروا بصمودهم على الأرض بطولات خالدة،فصاروا جديرين بوعد الحق:" وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ  وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ"إبراهيم/13 ـ 14
وعلى صعيد الجانب الإنساني قامت مصروتقوم بشتى الطرق في ملحمة إنسانية لم يسبق لها مثيل شاركت فيها الدولة الرسمية والمؤسسات المدنية وشارك فيها حتى الرجل البسيط بإيصال المساعدات إلى أهل غزة على أرضهم في الوقت الذي تعمل فيه أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما على تزييف الحقائق وإظهار مصر في صورة المشارك في حصار غزة.  
وقامت على الصعيد الاقتصادي بتقليل المدة الزمنية لعبور السفن عن طريق إنشاء وحفر قناة موازية للقناة الأصلية؛ لتظل العظمة الإلاهية متجلية في عبور كل سفينة أرض مصر بقوله تعالى:" وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ" أي: الجبال التي لن يستوعبها طريق بري. 
لقد أبت مصر إلا أن تظل كما كانت دولة محترمة ذات مبادئ، تحترم كلمتها ، وتحترم تاريخها ، وتحترم جيرانها ، مأمونة الجانب لا تغدر ولا تخون، وذلك سر عظمتها.
عاشت مصر حرة أبية محترمة مصانة وحفظها الله من مكروه وسوء. 
 

 

[email protected]

تم نسخ الرابط