ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

سنة ١٨٧٩ استطاع الفونس بيرتيون Bertillon أثناء عمله بمديرية أمن باريس أن يصنع سجلاً للتعرف على المجرمين عن طريق التصوير الفوتوغرافى وكان الأمر جيد فى وقته لكنه لم يكن دقيقًا مما حدا به إلى أن يطور طريقة الاستعراف عن طريق علم قياس الملامح الجسدية لكل مجرم لكن الأمر كان شاقًا.

سنة ١٨٨٠ توصل سير فرانسيس جالتون Sir Francis Galron إلى علم فردية بصمات الأصابع واستحالة التساوى بين شخصين.

سنة ١٩١٠ حصل الطبيب الفرنسى إدمون لوكار Edmond Locarf على درجة الدكتوراه فى الطب ونادى باستخدام معطيات العلوم الطبيعية فى الكشف عن مرتكبى الجرائم دون الانحصار فى علم الطب الشرعى وحده وقد جعل من معمل بوليس ليون مركزا علميًا يمد الأقضية الجنائية بالأدلة المادية.

سنة ١٩٢٣ استطاع الكولونيل كالفن جودارد colonel Calvin أن يؤسس لعلم الأسلحة النارية عن طريق المقابلة بين العلامات المميزة للطلقات النارية أو لظروفها  المكتشفة فى مكان الجريمة وبين الطلقات وظروف الطلقات الخاصة بالسلاح النارى المشتبه فيه.

سنة ١٩٠٨ استطاع الطبيب الأول فى مستشفى القدسية مريم بلندن السير برنارد جون Sir Bernard John من خلال عمله المضنى فى التشريح أن يقدم للمحلفين الدليل على جريمة قتل امرأة تدعى  Cora Crippen والتمثيل بجثتها عن طريق مطابقة انسجة الجثة المتناثرة بعضها البعض وتبين أن من فعل ذلك هو زوجها.

سنة ١٩٠٦ نشر أستاذ علم الإجرام هانس جروس Hans Gross كتابه " فى نظام علم الجريمة "
والذى أبدى فيه عدم ارتياحه بسبب فقدان التحقيق الجنائي لمعاونة العلم وتركه فى يد المخبر أو رجل البوليس ونادى بضرورة اتباع منهج علمى فى التحقيق ينصب على مسرح الجريمة!

لم يتوقف الأمر عند ماديات العلم بل امتد إلى علم النفس الجنائى فقد فاجأ المستشار محمد بك فتحى رئيس محكمة استئناف مصر سنة ١٩٤٢ الأوساط القضائية بمؤلف عظيم حمل عنوان " علم النفس الجنائى" وكان هذا فى بداية أربعينيات القرن الماضى وهو مؤلف يمثل إذا جاز لنا التعبير " تشريح للنفس البشرية"
ندلل على ذلك بفقرة من هذا المؤلف يمكننا من خلالها التحقق من اعتراف المتهم وما إذا كان اعترافاً صحيحاً يعد سيداً للأدلة أم باطلا لا يعتد به على الإطلاق.
هذه الفقرة تتعلق بما يُعرف ب..

الاختبار بالتداعى اللفظى.
the word association test.

عندما يصبح عقل المجرم شديد التنبيه بكل ما له علاقة بجرمه، عظيم القابلية للتأثر بذكرياته وتصبح نفسيته ميداناً صالحاً يباشر فيه الباحث تجاربه واختباراته وعندما يكون الجرم قريب الوقوع ولم يمض عليه زمن تكون قد هدأت فيه ثورة نفسه.
وأدوات هذا الاختيار هى ساعة Stop watch ومائة كلمة تتلى عليه ثلاثون أو أربعون لها صلة بالجريمة التى أُرتكبت ثم نقيس قياسًا دقيقًا وقت الاجابة بعُشر الثانية ، وعلى المختَبر أن يلفظ أول كلمة ترد فى ذهنه بمجرد سماعها بأقصى سرعة ، ثم ترصد الإجابات ووقتها بعشر الثانية فى جدول بمنتهى الدقة ومن خلال هذا الجدول يمكن لمن يجرى الاختبار أن يخرج بنتائج مذهلة وربما قاطعة وذلك لأن المختبِر من خلال إحصاء هذه التجارب ليس لديه مقدرة الصمود أمام مائة كلمة تتلى عليه على النحو السابق.
الوقت المتباين بين الإجابات هو المعيار بين التلقائية والتصنع لأن الردود التلقائية الصحيحة تكون لا محالة أسرع وقتًا على العكس من الردود التى يحاول فيها المختبر أن يضبط نفسه.

مثال بسيط!
إذا أسند إلى المتهم قتل إنسان داخل مخدعه وكان بجوار سريره قفص به ببغاء فإن المختبر يضع فى القائمة كلمة " طائر" فالمتهم بمجرد سماعها تنتبه فى ذهنه فى الحال ذكرى " الببغاء" وإنما قد يدفعه الحرص إلى ضبط لسانه عن ذكرها لما لها من المدلول الخطير ويستعيض عنها بكلمة "غراب" مثلا. فيضع المختبِر فى السؤال الثانى الذى يليه كلمة "لون" فالغالب أن يكون جوابه "أخضر" لأن صورة الببغاء كانت لاتزال ماثلاً فى مخيلته فتصبغ الجواب المذكور بلونها وهكذا من خلال مائة كلمة وتوقيت ردود دقيق!

هكذا ومنذ أمدٍ بعيد بدأ قطار العلم يلتحم بالجريمة وهكذا كتب العلماء سطوراً خالدة من حقائق كنَّا نظنها فى الماضى منبتة الصلة عن الجريمة لكننا اكتشفنا أنها ليست فقط قريبة منها وملتصقة بها لكنها تشكل فى الحقيقة قلب الجريمة!.
بل قلبها الدامى.
ولم يعد المحقق فى مكتبه مطلوب منه فقط العلم بالقانون بل محتم عليه أن تمتد معرفته إلى كافة العلوم المرتبطة بالجريمة منذ تلقيه نبأها ومعاينة مسرحها.
ولم يعد مقبولاً من القاضى أن يقتصر علمه على القانون بل إن من أقدس واجباته أن يحيط علمه بكل ما له صلة بالجريمة وحتى يطمئن وهو يعلنها صريحة أنه الخبير الأعلى.
إن العلم أصبح يحسم أمور كثيرة فى مجال الجريمة وكثيرة هى القضايا التى قضى الأمر فيها بناء على حقيقة علمية تتصدر صفحات الحكم بينما يتوارى نص القانون خلفها.
تلك حقيقة من يتغاضى عنها أو لا يوليها ما تستحقه ستكون رؤيته مشوشة ضبابية وسيكون رأيه قَلِق غير راسخ ولا قضاء على مشوش أو قلق ، إن القضاء عقيدة وبذل وشرف ولن يتأتى ذلك إلا عندما يوقن رجل العدالة أن كل العلوم لصيقة بالجريمة وأنه ليس بإمكانه أن ينعزل عن حقيقة راسخة مثل هذه.
وللحديث بقية.

تم نسخ الرابط