لا شك أن العلم هو أحد أعمدة بناء الأمم وتقدمها، فبالعلم تُبنى الأمم وتتقدم، ويساعد على النهوض بالأمم المتأخرة، ويقضي على التخلف والرجعية والفقر والجهل والأمية وغيرها من الأمور التي تؤخر الأمة، فالعلم من أهم ضروريات الحياة، كالمأكل والمشرب وغيرها، ولا تنهض أمة إلاّ بالعلم ، ولا يوجد تاريخ أو حضارة إلا به ، والعلم معروف منذ البشريّة ومنذ بداية خلقها، قال تعالى﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(سورة البقرة: الآية ٣١)
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ قال ابن كثير في شرحها وتفسيرها:
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم الله تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾.اهـ
و قد اهتم الإسلام بالعلم اهتماماً كبيراً، فعندما نزل القرآن الكريم فكان أول كلمة نزلت هي اقرأ لعظمة العلم ولعظمة أمرهِ في حياة الإنسان ، والحكمة من نزول كلمة اقرأ هي للتعلم ؛ لأنّ الله لا يعبد بجهالة أو بغير علم قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:٩].
ومن هنا جاءتْ أولُ كلمة من الخالق - عز وجل - إلى نبيِّه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - على لسان جبريل - عليه السلام - (اقرأ)، وكرَّرها ثلاثَ مرات قبل أن يطيع النبي - صلَّى الله عليه وسلم - هذا الأمر الإلهيَّ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: ١ - ٥]، فأوَّل خطاب وُجِّهَ إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أمرًا بالقراءة، وحديثًا عن القلم والعِلم، وظل سلَفنا الصالح - رضوان الله عليهم - في ظل هذه الكلمة العجيبة (اقْرَأْ) ينهَلون من منابع العلوم والمعارف الشرعية والعلمية والأدبيَّة؛ حتى استطاعوا إقامة حضارة عظيمة، انتشلوا بها البشريةَ من بحور الظلم والتخلُّف، إلى شُطآن العلوم والمعارف، أمَّا في العصر الحديث، فقد توقَّف المسلمون عن القراءة والاطلاع، حتى أصبحت أمَّة (اقرأ) لا تقرأ؛ حتى سبَقَها إلى ميادين القراءة والاطلاع أُممٌ وشعوبٌ أخرى، شجعتْ على التعلُّم والقراءة والاطلاع الحرِّ في شتى مجالات الحياةِ؛ مما أدَّى إلى تفوُّقهم وريادتِهم، وعالَمُ اليوم هو عالَمُ القراءة والاطلاع والإبداع والابتكار.
ولم يكن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو أحياء أو رياضيات، وإنما كتاب هداية، ومع ذلك لم يخالف ما فيه شيئًا مما يثبته العلم الحديث أبدًا وقد كان لذلك كله أثر بعيد المدى في الدولة الإسلامية بعد ذلك؛ حيث أوجد نشاطًا علميًّا واسعًا في مختلَف ميادين العلم والمعرفة، نشاطًا لم يعهد له التاريخ مثيلًا؛ مما جعله يحقق ازدهارًا حضاريًّا عظيمًا على أيدي علماء المسلمين، ويمد التراث الإنساني بذخيرة علمية رائعة يظل العالم بأسره مدينا لها، يقول ماكس مايرهوف «يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة، وأكبر دليل على ذلك أن كثيرًا من المصطلحات التي ابتكرها مازالت مستعملة في مختلف اللغات الأوربية ويقول ألدو مييلي: «وإذا انتقلنا إلى الرياضيات والفلك فسنلتقي منذ البدء بعلماء من الطراز الأول، ومن أشهر هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي. وقد افتتح الخوارزمي افتتاحًا باهرًا سلسلة من الرياضيين العظام، وقد ظلت كتبه تُدرَّس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر». وتقول زغريد هونكه عن الجزء الخاص بالجراحة من كتاب: «التصريف لمن عجز عن التأليف» لمؤلفه الزهراوي: «وقد لعب القسم الثالث من هذا الكتاب دورًا مهمًّا في أوروبا؛ إذ وضع أسس الجراحة الأوروبية، وسما بهذا الفرع من الطب إلى مقام رفيع، فأصبحت الجراحة مستقلة بذاتها ومعتمدة في أصولها على علم التشريح». وقد كان لكتاب الزهراوي هذا أثر كبير في النهضة الأوربية على مدى خمسة قرون، حيث كان يدرس في جامعات أوروبا، كما كان الجراحون الأوربيون يرجعون إليه ويقتبسون منه. ولا يزال يقدم العلماء المسلمون إنجازات للبشرية جمعاء؛ يقول أحمد زويل في كتابه «عصر العلم»: «كان عملي يقع مكانًا في قلب الذرات حيث التحام وانفصال الجزيئات كما كان يقع زمانًا في داخل الثانية حيث تصبح الثانية زمنًا عملاقا». ولا غرو فإن هذا العلم والهدى والنور الذي جاء به محمد ﷺ انتشل البشرية من مستنقعات آسنة؛ فرفعها بالعلم والحضارة والتمدن على مدى التاريخ.
نعم لقد اهتمّ الإسلام بالعلم اهتمامًا بالغًا، وتجلّى هذا الاهتمام في مظاهر وصورٍ كثيرةٍ :
فمثلا الزكاة تعطي لطالب العلم، ولا تعطى لمن يريد الانقطاع للعبادة؛ إذ لا رهبانية في الإسلام..
و يقدم الأحفظ لكتاب الله، والأفقه لإمامة الناس في الصلاة، كما جاء في الحديث (يؤم القوم أقرؤهم لِكِتَابِ اللَّهِ ...)؛ لأنه أعلم بتدبير أمر الصلاة.
وفي ديننا: العلم خير من نفل العبادة، وقد جاء أن ابن وهب أراد أن يقوم من مجلس الإمام مالك من أجل الصلاة، فقال له الإمام مرشدا: "ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه إذا صح فيه النية".
وفي ديننا أيضا، العلم قبل الجهاد، ومداد العلماء يوزن بدماء الشهداء. وبالعلم يعرف فضل الجهاد، وبالعلماء يحشد الناس للقتال، ولولا العلم الرشيد لكان القتال خروجا مذموما أو انتحارا في سبيل الأهواء المضلة، كما فعل الخوارج قديما، وكما تفعل الحركات المتطرفة حاليا.
وفي ديننا: العلم طريق الجنة، وسبيل معرفة الله، ويدل على هذين النصين القاطعين من القرآن قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: ١٩٠-١٩١).
ومن السنة: أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء مرفوعا، قوله عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
العلم جهاد كبير
العلم أفضل الجهاد وطلبه في سبيل الله لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد ولهذا كان الجهاد على نوعين جهاد باليد واللسان وجهاد بالحجة والبرهان والدليل الله عز وجل جعل تعليم العلم جهاداً كبيراً قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ٥١ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ٥٢﴾ [الفرقان:٥١–٥٢].
وأخيرا أقول:
نعم بالعلم وحده تبني الأمم
ولله در القائل:
يا طالِباً لِمَعالي المُلكِ مُجتَهِداً
خُذها مِنَ العِلمِ أَو خُذها مِنَ المالِ
بِالعِلمِ وَالمالِ يَبني الناسُ مُلكَهُمُ
لمَ يُبنَ مُلكٌ عَلى جَهلٍ وَإِقلالِ