ads
الجمعة 22 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

يوميات نائب فى المدينة

لقاء عشماوي.. عقوبة ينطق بها قاض وينفذها جلاد

القاضي سامح عبد الله
القاضي سامح عبد الله

في تلك الليلة لم تغب عني تفاصيل المشهد المهيب .
كل التفاصيل ظلت شاخصة أمامي تتحرك ببطء شديد وكأنها تحدثني .. تقول لي: لا يجب أن يغيب عن مخيلتك شيء مما شهدت . إن ما سطرته بأوراقك يجب أن تختزله في عقلك ووجدانك .
هكذا كان المشهد يتجسد أمامي كحقيقة مطلقة .. فناء السجن المستطيل.. حرس الشرف المكون من ضلعين من الجنود.. أعين السجناء التي تتحرك مقلتاها زائغة يين اليمين واليسار وهى ترقب من علٍ مشهد الحياة الأخير .
عشماوي بجسده الصلب ومساعده الذى لا يختلف عنه في شيء سوى أنه سيخلفه يوم ما .
المحكوم عليه الذى لا يقوى على المسير إلا بمساعدة جنديين كل منهما يمسك ذراع .. واحد من اليمين والآخر من اليسار .. كان ظاهره أن يسير لكن الحقيقة أن الجنديان كانا يحملاه . اصطكاك أسنانه الذى ظل يتردد بأذنيَّ هذا التردد المفزع .. مأمور السجن وهو يقرأ بصوت حاد عريضة الاتهام التي نسبت إليه ومنطوق الحكم الذى صدر ضده ..طبيب السجن ..الطبيب الشرعي وغيرهم من المختصين كل كان يتأهب لإنهاء ما كُلف به من عمل يبدو أنه صار بالنسبة لهم رتيب ممل .. ثم أنا وكيل النائب العام يدون تفاصيل آخر مشاهد الحياة .. وقد سألت نفسي: كيف يكون مشهداً كهذا رتيب ممل؟!
هل يصير مشهد الموت المتكرر هكذا رتيب ممل؟!
كنت أحسب قبل هذه اللحظة أن للموت دائماً رهبته حتى ولو كان عقوبة ينطق بها قاض وينفذها جلاد .

خمسون متراً يسيرها المحكوم عليه بعد أن ينتهي لقاؤه برجل الدين ليودع الدنيا إلى عالم آخر لا يعلم تفاصيله إلا الله .
الأوراق التي بين يدي تسمى محضر إجراءات .. !
يالجرأة الإنسان ..!
إنه يسمي هذا "محضر اجراءات" 
التفاصيل الأخيرة في حياة إنسان تسمى إجراءات ، ثم كان عليَّ أنا أن أدونها بكل دقة منذ مجيئي إلى هنا وحتى المغادرة .
تنطوى ورقة الإجراءات بمجرد أن تنتهي حياة المحكوم عليه .. علاقة طردية عجيبة ..بين طي الورقة وطي العمر .
لم يختلف الأمر هنا عما دونه “فيكتور هوجو منذ أكثر من قرنين من الزمان  في مؤلفه العظيم: ”مذكرات محكوم عليه بالإعدام"
كان هناك تطابقاً عجيباً بين ما سُطر في القرن الثامن عشر وبين ما أدونه الآن في هذا الصباح المبكر .
يقول "هوجو" في مؤلفه على لسان المحكوم عليه بالإعدام أن المسجونين كانوا يعلموه التحدث بلغة السجن وهي لغة كما وصفا مكتملة النمو مشتقة من اللغة الجارية كنوع من الورم الخبيث ، كان لبعض ألفاظها وقع مخيف مرير مثل قولهم: "إنه يمشي على العنب الأحمر" كناية عن الدم الذى يساق عليه المحكوم عليه بالإعدام . وكانوا يقولون أيضاً :
"إنه يتزوج الأرملة" ويعنون به أن المحكوم عليه يشنق كما لو كان حبل المشنقة أرملة فقدت كل أزواجها السابقين المشنوقين .
كان هذا منذ ثلاثة قرون . كانت عقوبة الموت تنفذ شنقاً حتى جاء دكتور جيوتان Guillotin الذى اخترع المقصلة.
من المهم أن نشير إلى أن هذا الطبيب الفرنسي الذى سميت المقصلة على اسمه كان من معارضي عقوبة الإعدام بشكل عام لكنه في ذات الوقت اخترع المقصلة .
لقد رأي أن تنفيد حكم الإعدام وحتى يواصل التاريخ مسيرته نحو إلغائها يجب أن تكون على الأقل بطريقة أقل إيلاماً ومن ثم فقد اخترع المقصلة .
من المهم أن نشير أيضاً أنه أُطلق عليه منذ هذا الوقت وتحديداً منذ عام ١٧٨٩ الطبيب الرحيم.
على أية حال لم يقم أحد من الموت حتى يخبرنا أية طرقة كانت أرحم .. المشنقة أم المقصلة أو ماذا يصنع الموت بأرواحنا .
هناك دائماً كلمات منقوصة في وصف المشهد حتى ولو دونه أروع روائي العالم . إنه مشهد النهاية . مشهد خروج الروح . 
إنه المشهد المحجوب دوماً عن الإنسان إلى ما لا نهاية .. !

التاريخ يشهد أن هناك وقائع إعدام عن طريق المقصلة كانت تمثل أبشع وسيلة لانهاء حياة إنسان، ذلك عندما تعطل سير المثلث الحديدي الرهيب عن سرعته الجهنمية، لم يكن المثلث هذا يعمل منذ شهر سابق على تلك الواقعة،  كان ينقص قضبان المقصلة الحديدية الزيت الكاف فأخذ المثلث يلتهم رقبة المحكوم عليه بدم بارد بينما صوت صراخه المبحوح يهز ارجاء العالم .
لا أدري ماذا لو حدث شيء مماثل عند تنفيذ حكم الاعدام بالمشنقة .. !

فلنعد إذن إلى المقصلة .
هذا الوحش المصنوع من الخشب والحديد والذى تهوي سِكينته مثلثة الشكل من مسافة ستة أمتار فوق رقبة المحكوم عليه المشدودة فتفصلها في أقل من ثانية عن جسده لتندفع رقبته داخل السلة الحمراء منزوعة من جسده وكأنها لم تُركب فوقه يوم ما .
هذه الآلة التي تحدث سِكينتها وهى في طريقها كالبرق يلتهم رقبة المحكوم عليه أبغض ضجيج يمكن أن يعرفه العالم كانت في نظر الطبيب الرحيم وربما العلم أيضاً أرفق من حبل المشنقة الذى أراه يعد الآن بكل حرفية وبكل دقة .
لا أعلم أية كلمة مناسبة في أي لغة يمكن أن نصف صوت سكين المقصلة في اندفاعها هذا . كما أنني لا أعلم أيضاً أية كلمة في أية لغة يمكن أن نصف بها صوت جسد المحكوم عليه وهو يهوي بكل ثقله من مسافة ستة أمتار من فوق الطبلية التي تفتح فجأة وفي أقل من ثانية أيضاً ليسقط في هذا البئر معلقاً حتى تسكن آخر نبضة في قلبه .
هل أُطلق عليه صليل؟
لا أدري .
انظروا إلى هذا التطابق العجيب .
هناك عند القرن الثامن عشر ستة أمتار هى المسافة التي تقطعها سكين المقصلة في طريقها لالتهام رقبة المحكوم عليه وبين الستة أمتار هنا التي يهوى على مسافتها جسده المشنوق . 
ستة أمتار هناك وستة أمتار هنا .
ربما كانت قوانين الفيزياء حاضرة هنا وحاضرة هناك .. !

في المشهدين ربما كان العقل أيضاً حاضراً بينما كانت العاطفة تتوارى خجلاً، ربما كان المنطق حاضراً بينما كان حضور الوجدان آفلاً .
لا يجب أن يجيب كلاهما عن المشهد .
العقل والعاطفة، المنطق والوجدان .
يجب أن يكون كل منهما حاضراً عند كل مشهد يُتلى فيه نص عقابي وعند كل مشهد يُعلن فيه منطوق الحكم .
يجب أن تكون حاضرة دائماً عبقرية التكامل بين ما نعده من الأضداد .
عبقرية التكامل بين الأسباب العقلية والأسباب العاطفية .
إن النوعين يتساندان على الدوام .
ولنتذكر كما يقول "هوجو" في مؤلفه السابق: أن "قانون الجرائم" وهو الذى ألفه الفقيه الإيطالي "بيكاريا" مأخوذ من "روح للقوانين" الذى ألفه "مونتسكيو" وأن الأخير هو الذى أنجب بيكاريا .. !
هرعت في هذه الليلة إلى الرواية الخالدة "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز ثم رحت إلى كتاب الدكتور محمد زكى أبو عامر قانون العقوبات القسم العام لأستعيد حديثه عن عقوبة الإعدام والجدل المحتدم بين المناهضين لها وبين المدافعين عنها .
كل له حجته ولكن تبقى حقيقة مريعة:" انه يمشي على العنب الأحمر"، "إنه يتزوج الأرملة"
وللحديث بقية ..

تم نسخ الرابط