ads
الخميس 21 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي


كان محمد حافظ رجب -  أهم كاتب قصة ظهر في الإسكندرية، ومن أهم كتاب القصة القصيرة على مستوى الوطن العربي كله. كان يقف مسندا ظهره على جدار سينما ستراند، قريبا جدا من سلم النفق الذي أسسته عصا عبد اللطيف البغدادي السحرية، بإقامة نفق تحت ميدان المسلة، المعروف جماهيريا، باسم ميدان محطة الرمل. وقريبا جدا من باب سينما ستراند، وأمامه " بنيكة"(1) مغطاة بالزجاج من جهاتها الأربع، يظهر من خلال الزجاج الفستق، والسوداني واللب  الذي يبيعه.
لقد أختار محمد حافظ رجب أنسب الأماكن للبيع. فالجماهير التي تأتي إلى الميدان، إما للتنزه، أو للذهاب لعملها، أو لدخول السينمات الكثيرة فيها. تحرص على السير في هذا الطريق، ويزداد الزحام في هذه المنطقة بالذات، لأنها المنحنى الذي يوصلك لعمق الميدان، حيث محل " علي كيفك "،  ومسرح تربيكو، ومحلات الهريسة المشهورة هناك، ثم سينما ريتس، وبعدها سينما فريال. وتحرص الجماهير على الوصول للميدان، إما بعبور الشارع أمام سينما ريتس حيث يقف جندي المرور هناك، أو باستخدام السلم الكهربائي للنزول إلى النفق، الذي تحول إلى مجمع استهلاكي لبيع الخضروات والفاكهة والبقالة واللحوم.

يحكي محمد حافظ رجب، بأن الشرطة كانت تطارد الباعة الجائلين، وإن مخبر بنقطة شرطة المسلة، جاء وقبض عليه، لم يستطع حافظ رجب الهروب منه، فالبنيكة الممتلئة بالفستق المرتفع الثمن؛ ثقيلة ولا يستطيع حملها والجري بها.
أصر المخبر على أن يحمل رجب البنيكة الثقيلة على رأسه، ويعلق الحامل على كتفه ويقوده حتى نقطة المسلة القريبة جدا من برج الثغر.
هذه أزمة الباعة كل الباعة في هذا الميدان، أزمة قديمة جدا، ما أحكيه حدث أيام حكم جمال عبد الناصر، والمشكلة موجودة للآن، بل تأزمت وتعقدت أكثر.
يحكي الكاتب الإنجليزي لورانس داريل في رائعته الروائية ( رباعية الإسكندرية ) عن محطة الرمل، فيقول إنها مكونة من أكواخ صفيح. 
كانت منطقة مهملة، قريبة جدا من  (مسلة كليوباترا).  وكانت ضاحية “الرمل” صحراء تنتشر فيها الكثبان الرملية المتصلة، وتتناثر فيها واحات صغيرة فقيرة يأوى إليها بعض الأعراب فى مواسم الأمطار ثم ينتقلون نحو الجهات الرطبة الخضراء جنوبا بمديرية “البحيرة”، بحثا عن مراع لأغنامهم. 
وقرية صغيرة تسمى " الرملة " ، يعمرها القليل من السكان. وعندما حدَّث الوالي سعيد المدينة لعشقه لها، فقد حكم مصر من خلالها، ( هو أول وآخر حاكم لمصر في العصر الحديث ، يتخذ من الإسكندرية عاصمة للبلاد) فقد ولد وعاش ومات فيها وتم دفنه في مسجد النبي دانيال الشهير بالإسكندرية. لذا كانت الإسكندرية كلها ملك حفيده عمر طوسون.
الوالي محمد سعيد حدَّث المدينة، مما أدى إلى زحف العمران تدريجيا نحو الشرق فبدأت تلك القرى الصغيرة فى الالتحام بالمدينة الأصلية وضاحية الرمل، فأحس الحكام بحاجة منطقة الرمل إلى وسيلة انتقال تصل بهم إلى وسط المدينة، فكان الامتياز الذى تم منحه للسير “ إدوارد سان جون فيرمان ” فى 16 أغسطس عام 1860م، لمد قضبان حديدية بجهة ( مسلة كليوباترا) – محطة الرمل الحالية -  لنقل المواطنين بقطار واحد من المسلة إلى محطة بولكلي، وبمرور الوقت تلاشى اسم المسلة، وعبر الناس عما يرونه أمامهم، بأن هذه المحطة، تنقل الركاب للرمل، فأصبحت محطة الرمل.   

ميدان محطة الرمل، هو أهم مكان في الإسكندرية على الإطلاق. وقد كنا نحرص في بداية شبابنا على الحضور إليه كل يوم تقريبا  نخرج من حينا في راغب باشا، ونصل إلى محطة مصر، ندخل شارع النبي دانيال، في أوله مدخل يصل بنا إلى الأرض الواسعة التي خلفها إزالة كوم الدكة - قبل اكتشاف المسرح الروماني- نجد أنفسنا في شارع المسلة الذي أصبح صفية زغلول بعد قيام ثورة يوليو 52، في آخره محطة الرمل. هذه رحلة أهالي الإسكندرية، يأتون إلى محطة الرمل من كل مكان فيها. 
أسر كثيرة تحرص على الذهاب إلى محطة الرمل للفسحة، تأتي مثلنا قريبا من محطة مصر، ويأتي الكثير من منطقة الرمل بركوب الترام. يشترون الفشار المشهور في الميدان، أو غزل البنات للأطفال، والجيلاتي، والسندوتشات. يقفون وسط الميدان، يتحدثون.. فهذا هو مكان الالتقاء، ومن خلاله يتحركون إما إلى السينمات الكثيرة هناك، أو إلى المقهي، أو حتى إلى أعمالهم. 
نجد هناك  ترامين لونهما أزرق، خط رقم 1 آخره فيكتوريا عن طريق باكوس. وخط رقم 2 آخره أيضا فيكتوريا لكن عن طريق جليم. وبذلك تغطي ترام الرمل كل الأحياء هناك.
وترام أخرى لونها أصفر تبدأ من محطة الرمل وتنتهي في محطة رأس التين، وأحيانا تبدأ من محطة المطافي في المنشية وتنتهي في سيدي جابر. وإذا اسعدك الحظ، تجد ترام بكاتين ( دورين) فتصعد للدور العلوي، وتشاهد الإسكندرية من فوق.
وقد حدثني عضو بارز في مجلس محلي مدينة الإسكندرية، بأن المحافظة تحرص على وجود الترام أم كاتين، حتى لو كلفها هذا المبالغ الطائلة، فقد أصبحت  الترام أم كاتين من معالم الإسكندرية التي تمتاز بها وحدها دون كل محافظات مصر. 
علاقتننا بباعة الكتب في مدينة الإسكندرية 
بالنسبة لنا نحن الكتاب، هناك ثلاث أنواع لباعة الكتب في مدينتنا الإسكندرية:
النوع الأول هم موظفو المكتبات الحكومية مثل فرع هيئة الكتاب، وفرع دار المعارف بشارع سعد زغلول. وهم يعرفوننا بالإسم، خاصة في فرع هيئة الكتاب، فالهيئة نشرت لنا الكثير من الكتب التي ترد إلى الفرع. كما أننا نحرص على شراء كتبنا من الفرعين، الهيئة ودار المعارف. 
النوع الثاني هم باعة الكتب القديمة في شارع النبي دانيال، وهم يتعاملون معنا بحب، فعندما أسير في الشارع، أحييهم، ويرفع بعضهم كتبي التي وردت إليهم عن طريق التجار الذين يشترونها من ربات البيوت، وأعطي تليفوني لهم، فأحيانا يسأل البعض عني أو عن كتبي، فقد كنت أسير مع صديق لي، واستوقفني أحدهم قائلا: 
- جاءت فرنسية وسألت عن كتبك.
فالمركز الفرنسي قريبا جدا منهم، أو عندما اتصل بي أحدهم قائلا: - جاء بلال فضل يسأل عن كتبك عندي.
النوع الثالث: هم باعة الكتب والمجلات في محطة الرمل، وعلاقتنا بهم قديمة جدا، فمازلت أذكر عم السيد عبده  الذي كان رئيسا لنقابة باعة الصحف، والذي كان يحرص على حضور لقاءات خالد محيي الدين السياسية، والذي ارتبطت علاقته بكل أدباء الإسكندرية، فقد علقت لافتة تعلن عن صدور كتابي الأول الصعود فوق جدار أملس بجوار فرش صحفه وكتبه ومجلاته. وهكذا فعل سعيد سالم عندما أصدر كتابه بوابة مورو. 
وبجوار عم السيد فرش الرملي، الذي ارتبطنا به وبابنه ممدوح، وبكل العاملين في فرش جرائده، وبعد صدور روايتي الجهيني، جاءني الصديق أحمد فضل شبلول في قصر ثقافة الحرية، قائلا: 
- ممدوح الرملي بيقولك: جمال الغيطاني سأل عليك وعايز يقابلك، وهو نازل في فندق سويس كوتيش. 
وفعلا اتصلنا بالفندق، وحددنا موعدا مع جمال الغيطاني – شفاه الله – في أتينيوس، وقابلناه أنا ومحمد عبد الله عيسى وأحمد فضل شبلول، وقد قرأ روايتي الجهيني وأعجب بها. وكتب عنها في باب كان يصدر في جريدة الأخبار كل يوم خميس، بعنوان آخر الأسبوع ويشرف عليه الأستاذ أحمد الجندي.
إنني – أساسا – ضعيف جدا أمام الكتب، واعتبرها من المقدسات، ومن معالم التقدم، ولا أستطيع احتمال إنسان يتعامل مع الكتب وكأنه يتعامل مع أحذية أو اي سلعة أخرى، هذا ما أحسه إذا تصادم باعة الكتب القديمة في شارع النبي دانيال، مع الشرطة المعروفة باسم الإزالة، وهذا ما أحسه إذا حدث صدام مع باعة الجرائد والمجلات والكتب بميدان         محطة الرمل. 
كنا نحضر ندوة القصة بقصر ثقافة الحرية يوم الاثنين، عبد الله هاشم ورجب سعد السيد وسعيد بكر وأحمد حميدة ومحمد عبد الوارث وغيرهم، وبعدها لابد من الذهاب إلى محطة الرمل، لمتابعة الكتب والمجلات والجرائد، ونشتري ما يلزمنا، ويركب البعض الترام ليعود لبيته، ونسير معا حتى محطة مصر.   
لم أكن أعلم واعتقد أن الكثير لا يعلمون مثلي – إن الميدان ليس تابعاً لمحافظة الإسكندرية، وإنما هو ملك هيئة النقل العام، المكان كله تابع لترام الرمل، وكل من يشغل محلا أو كشكشا أو فرشا لبيع الجرائد يسدد إيجاره لهيئة النقل العام. 
سيادة محافظ الإسكندرية قرر تطوير هذا الميدان الذي له صلة بالترام التي يعشقها، ولا أدري ما سر اهتمامه غير العادي بالترام. حتما في طفولته أشياء أدت إلى ذلك. 
المهم إن التطوير ستقوم به الجهة المالكة، وهي هيئة النقل العام التي أرسلت إنذارا إلى كل شاغلي الميدان، بأن يستعدوا لإخلائه وأعطوهم مهلة حتى  يوم الأحد 8 أكتوبر 2015 لعمل التطوير فيه.
وبالفعل تم إزالة الأكشاك، ومنها كشك لبيع الفشار يعتبر من معالم الميدان هناك. ينزل ركاب الترام، ويتزاحمون لشراء الفشار، وقد يحمله البعض ويركب الترام به.  
وحدثت اتهامات بين مؤجري الميدان وهيئة النقل العام التي تزعم إن باعة الجرائد لا يسددون الإيجارات المستحقة، وباعة الجرائد يردون بأن لديهم إيصالات تؤكد سدادهم لقيمة الإيجار. بل ويقول بعضهم بأن المشكلة بدأت منذ أن تولي اللواء خالد عليوة مسئولية رئاسة الهيئة العامة لنقل الركاب بمحافظة الإسكندرية، فطالبهم برفع قيمة الإيجار، فاشتكى البعض  بأن بيع الجرائد لا تأتي بمبالغ كبيرة تمكنهم من سداد الإيجار الذي يريده، فقال لهم ما معناه، طيب ما تغيروا النشاط، بيعوا كشري أو كبدة. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بنيكة، تصغير كلمة بنك.  وكلمة بنك أصلها هو الكلمة الايطالية "بانكو" و تعني المصطبة التي يجلس الصرافون لتحويل العملة، ثم تطور المعنى ، إلى أن أصبح يعني المكان الذي توجد فيه المنضدة، وتجري فيه المتاجرة بالنقود[FONT="]، أما اصطلاحا فتعني هذه الكلمة المكان الذي يلتقي فيه العرض و الطلب على النقود، أي تقبل الودائع بشتى أنواعها من الفئة ذات الفائض وإعادة استخدامها أو منحها في شكل قروض و سلفيات لفئات أخرى ذات احتياجإلى الأموال. ومن هنا يظهر البنك كوسيط مالي يقوم بإعمال الوساطة غير المباشرة بين المقرضين و المقترضين[/FONT]
 

تم نسخ الرابط