الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

كتبت هذه المقالة بعد الهجوم الإيراني بدقائق! لم يُفاجأ العالم "بالرد" الإيراني على إسرائيل التي استهدفت عناصر الحرس الثوري الإيراني في سوريا منذ قرابة الأسبوعين، فتأخُّر الرد الإيراني ووسائله وطريقته هي متغيرات يمكن فهمها -ولو جزئيًا- في إطار النقاط الآتي بيانها:

1. أن التأخر إنما جاء في إطار التفاهمات المعلنة أو غير المعلنة، بالاتصال المباشر أو غير المباشر بين أطرافه(أمريكا، إسرائيل، إيران). 2. أن الرد جاء معتادًا من حيث مسرح المعركة: أي دول ومناطق تنازُعِ النفوذ بعيدًا عن الأطراف المباشرة للصراع (إسرائيل، إيران)، مع إمكانية شن ضربات واستهداف مصالح في دول العالم (تذكر أمثلة الأرجنتين، اليمن، إلخ). 
3. أن الاختلاف هذه المرة في الرد هو ما نقلته وسائل إعلام عن وصول ثلاثة صواريخ إلى أهدافها في تل أبيب والنقب (دون قدرات تدميرية / تفجيرية تُذكَر)؛ إذ يمكن اعتبار هذا الوصول غير تقليدي في إطار الرد الإيراني، ومن الصعب الجزم بكونه ضمن أفق التفاهمات أو لا. 
4. أن الرد الذي خلع عليه الحرس الثوري اسم "الوعد الحق" جاء بنحو ٣٢٠ مسيرة وصاروخ؛ أكثرها مسيرات، وأقلها صواريخ.

5. أن المسافة من إيران إلى إسرائيل تناهز ٢٣٠٠ كم؛ فلا مجال أصلاً لوصول المسيرات (صاحبة القسط الأعظم من الهجمة) إلى إسرائيل، خصوصًا إذا علمنا أن المدى الأطول للمسيرات الإيرانية كما أعلنته إيران في أواخر ٢٠٢٣ هو ٢٠٠٠ كم؛ ما يعني أن إطلاق تلك المسيرات كان مصحوبًا بالعلم بسقوطها في دول المسافة الفاصلة بين إيران وإسرائيل إثر نفاد الوقود، أو إثر الإسقاط بالنظم الدفاعية المضادة. 
6. أن بعض مناطق الضفة الغربية تضررت من الهجمة الإيرانية. 
7. أن الرد الإيراني جعلنا نرى -للمرة الأولى- أجسامًا حربية غير إسرائيلية في سماء القدس! 
8. أن أماكن منصات الإطلاق في إيران كانت متنوعة ومرصودة بوسائل التجسس الحديثة، وأن "التفاهمات" المذكورة آنفًا جعلت مقذوفات الهجوم تحلق "لساعات" في الأجواء الإيرانية قبل أن تضطر إلى عبور الأجواء العراقية والأردنية ثم الفلسطينية وصولاً إلى إسرائيل... مع إعلان ذلك في وسائل الإعلام لا عبر قنوات اتصال سري! وهو ما يعني توافر الوقت (العنصر الأهم والأصعب) وتفعيل النظم الدفاعية لإسقاط أسلحة الهجمة.

9. أن الرد الإيراني تزامن معه رشقات صاروخية من لبنان واليمن لإرباك النظم الدفاعية وتشتيت انتباهها؛ فعاد من الكذب أن تقول إيران أو وكلاؤها في المنطقة أنهم منفصمون من حيث التخطيط والغايات؛ وعاد أيضًا من الخطل تصديق ذلك الطرح.

10. أن الأنباء قد تواردت عن وضع دول "المسافة الفاصلة" (العراق والأردن) نظمها الدفاعية في حالة التأهب القصوى وإغلاق مجالها الجوي وتعليق حركة الطيران فيها كليًا، حتى قبل تأكيد الإعلان عن إطلاق الهجمة! وهو ما يؤكد فحوى النقطة السابقة.

11. أن التشويش السابق للهجمة على النظام العالمي لتعيين المواقع (GPS) في بعض دول المنطقة يؤكد العلم المسبق والرصد الدقيق لترتيبات الهجمة وتنفيذها.

12. أن الهجمة أثمرت عن تعليق خطط التظاهر والاحتجاج في الداخل الإسرائيلي، وتقليص فرص الانشقاق السياسي في حكومة الحرب الإسرائيلية.

13. أن الهجمة جعلت كل نظم الدفاع الإسرائيلية (المكلفة للغاية، مثل القبة الحديدية، أو الأحدث منها العاملة بأشعة الليزر الأقل تكلفة) تعمل بتناسق وتزامن، إلى جانب نظم أمريكية وأوروبية.

14. أن دول المسافة الفاصلة تظل في حيرى من أمرهابعيدًا عن ميول النظم السياسية الحاكمة: أنعترض أجسامًا حربية اقتحمت مجالاتنا الجوية وانتهكت سيادتنا وننتظر التكييف الإعلامي بأننا ندافع عن إسرائيل دفاعًا متقدمًا، أم نترك تلك الأجسام وننتظر التكييف الإعلامي المضاد أننا في صف إيران ونسمح بانتهاك سيادتنا؟

15. عطفًا على النقطة السابقة، لم تترك الولايات المتحدة وإسرائيل الخيار لأحد، فشرعت في إسقاط أجسام الهجوم في دول المسافة الفاصلة قبل الوصول إلى إسرائيل.

16. أن العراق -تحديدًا- استاء من الفعل والفعل المضاد على أرضه (اغتيال قاسم سليماني والرد الصاروخي الإيراني على ذلك كان على أرض العراق، وعلى ذلك فقِسْ)... وأبلغ إيران بالاعتراض وأمريكا بضرورة تقليص وجودها العسكري / انسحابها من العراق... فتتعالى إيران وأمريكا/إسرائيل على ذلك بالتراشق الجوي والاعتراض في الجو... مع محاولة صرف ذلك إلى مناطق حدودية غير مأهولة... لكن المؤكد وفاة بعض المواطنين في دول المسافة الفاصلة جراء ذلك!

17. أن مجلس الأمن قرر الاجتماع بعد سويعات من الهجمة... وهكذا الحال: إذا كنت ذا شأن دولي فستنعقد لك المجالس وتستنفر لك المنظمات سريعًا؛ والعكس بالعكس.

18. أن حكومة الحرب الإسرائيلية خرجت بإعلان مفاده "الانتصار" في تحييد الهجمة الإيرانية بعد النجاح في تأخيرها و"لَجْمها" من الأصل... وفي هذا تأكيد لمعنى "التفاهمات"... وفيه أيضًا إبراز لنجاح يمكن استغلاله على الساحة الداخلية لإنقاذ رقبة نتنياهو -ولو مؤقتًا- من المقصلة السياسية التي سيواجهها لا محالة.

19. أن الهجمة فيها استجلاء لقدرات الطرفين وما عساه يكون "سريًا" منها... ولسرعة نشر المضادات وكفاءة استخدامها... ولمواقع الإطلاق المكثف للأجسام الجوية... كما أن إمكانية التصدي من الأرض ومن الجو لأسلحة الهجمة يوحي بالكثير... خصوصًا إذا تذكرنا أن بعض القطع العسكرية الأمريكية الكبرى كانت قد غادرت المنطقة منذ أشهر.

20. أن بعض المسيرات الإيرانية المستخدمة في الهجوم هي من الجيل الأقوى والأحدث لديها؛ وبعضها مستخدم على الساحة الأوكرانية من جانب روسيا... فهل يكون في المعترَض منها فرصة لفك شفراتها وتحييد قدراتها مستقبلاً؟! كما أن الحديث في الإعلام عن التشابه في تكنولوجيا المسيرات المستخدمة والمسيرات العاملة في جيوش ذات نزعة غربية يفتح مجالات كثيرة للتساؤل...

21. أن إشغال العالم بهذه الضربات يفسح المجال أمام فرص التغيير الميداني في مناطق مشتعلة بالفعل (أوكرانيا) أو على وشك الاشتعال (إفريقيا).

22. أن الهجمة الحالية حلقة في سلسلة أوضاع اشتعلت منذ عملية "طوفان الأقصى" والرد عليها باسم "السيوف الحديدية"؛ وقد أجاد الجميع اصطناع المواقف فيها: فربط إيران بنصرة القدس مجاف للحقيقة، وربط الفاعلين من غير الدول بالمنطقة (الحوثيين / حزب الله، إلخ) بأجندات وطنية محضة هو أيضًا مجاف للحقيقة؛ ويقابل ذلك فن اصطناع مواقف الحماية والانتصار في الداخل الإسرائيلي، وفن اصطناع المواقف القانونية والقضائية والسياسية على النطاق العالمي الأوسع لمآرب سياسية مغلفة بفكرة الانتصار للحق وللمستضعفين... والضحية هي القيم المجردة والشعوب المشردة!

23. أن توظيف الدين في السياسة بات خطرًا ينذر بعودة الحروب الدينية في أسوأ صورها، فخطبة الجمعة صارت مصحوبة بحمل البندقية أو السيف (كما حدث من القوتين الإقليميتين غير العربيتين مع اختلاف المذهب ومسارات التوظيف الديني السياسي)، وهو عينه ما يحدث بصورة أخرى من استدعاءات النصوص والرموز الدينية في دولة الاحتلال.

24. أن التعلل باستهداف إسرائيل بسبب احتلال فلسطين ما بات ينطلي على أحد؛ فاحتلال الأراضي والجزر العربية ليس جناية إسرائيلية فقط؛ بل من دول الإقليم وغيرها من خلق كيانات وظيفية لها في دول لا تحتلها احتلالاً مباشرًا.

25. أن إيران صاحبة السمعة الأسوأ عالميًا في الاعتداء على المقرات الدبلوماسية (كما حدث ضد المقار الأمريكية والسعودية في إيران، مثلاً) تعلل هجمتها في ١٤ من إبريل ٢٠٢٤ باعتداء إسرائيل على قنصليتها في سوريا... والسؤال: هل تريد إيران حقًا شرعنة الرد العسكري على استهداف المقار الدبلوماسية؟! الحذر هنا مطلوب لأن إيران صاحبة المثل السيء في ذلك! أما إذا كان الرد هو أن إيران صاحبة قوة وبأس، فهذا إقرار لمبدأ "قانون القوة" على حساب مبدأ "قوة القانون"...

26. أن سوريا (العزيزة على القلب، العظيمة بالتاريخ والحضارة) مخترقة من حيث تظن أنها آمنة بسبب اهتزاز أركان الدولة! وليس أدلّ على ذلك من أن إسرائيل لم تستهدف مبنى القنصلية الإيرانية الحقيقي كما يظن كثيرون، بل استهدفت "بيتًا آمنًا" بجواره...! وهذا يعني أن جواسيس إسرائيل كانوا على علم بكل تفاصيل المبنيين وبهويات الداخلين إليهما والخارجين منهما... وحقق عدوانها هدفه.

27. أن إيران وأذرعها لا تعبأ كثيرًا بالقضية الفلسطينية... أليس الاحتلال قائمًا منذ عقود؟! إنما هو توظيف لأغراض تخدم أجندة إيران دون سواها! والتبعية الفكرية المذهبية الاقتصادية من تلك الأذرع إلى طهران تأتمر بأمر الراعي ولا تكترث لمصير الدول "المضيفة"! إيران اعتادت المضي بما أسميه "سياسة الاشترار": بمعنى أنها تمارس التخويف ونشر الشر والظهور بمظهر المستعصي على اللجم حتى تنال بعض المكتسبات... وقد حققت بذلك بعض المكاسب ذات يوم!

28. أن بداية الحل من اتحاد كلمة الفلسطينيين؛ وهي وحدة أجلّ وأوجب ما تكون اليوم!

29. أن الداخل الإسرائيلي محط أنظار المراقبين لأشهر مقبلة؛ فهل يكف عن المجيء بناشز الأصوات من اليمين المتطرف، أم يمعن في اختياره والتماهي مع مخططاته؟

30. أن على المجتمع الدولي أن يعي أن زريعته في المنطقة أصبحت مكلفة له بشدة، وأن استقرار المنطقة وحفظ المصالح العالمية فيها لن يتأتى إلا بأمن الجميع ومسالمة الكل... وأن أية معادلة تسقط طرفًا من حسبانها لن تستمر؛ فلا استقرار في المنطقة ولا أمن لإسرائيل دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.

31. أنه من قبيل اصطناع المواقف الذي أستشرفه هو تعليق كل الأطراف المعنية على نتيجة انعقاد مجلس الأمن للنظر في طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين... فسيحاول كل طرف انتحال النتيجة وتكييفها بما يؤكد صواب سياسته!

32. أن التكلفة الأولية للنظم الدفاعية في صد الهجمة الإيرانية ناهز مليار دولار؛ ومن وراء إسرائيل تمويل لا ينضب... وليست الحال كهذه في الجانب الآخر!

33. أن الرد المرتقب من إسرائيل سيكون داخل إيران وخارجها... وبشتى أشكال الحرب (العسكرية / الخاطفة / السيبرانية / التخريبية / الاغتيالات / تعطيل المنشآت، إلخ) ليس هذا من باب المعلومة المؤكدة، بل من باب المخطط الإسرائيلي المستمر منذ سنوات واستقر على أهداف مرهونة بمتغيرات محددة على صعيد القدرات الصاروخية والنووية والاستخبارية الإيرانية... فكلما قاربت على بلوغ مستوى معين تعتبره إسرائيل تهديدًا جديًا، سعت إسرائيل إلى تقويضه داخل إيران وخارجها... ومن ذلك استهداف علماء البرامج الصاروخية والنووية الإيرانية في إيران، وعناصر الحرس الثوري خارج إيران، وما شاكل ذلك.

34. أن الرد الإيراني الحالي غير بعيد عن الأوضاع السياسية الدولية، لا سيما الانتخابات الأمريكية الرئاسية المقبلة... فهي تهدف إلى تفعيل سياسية "الاشترار" المذكورة آنفًا قدر المستطاع لتنال ما يمكن نواله من الإدارة الأمريكية الحالية قبل ذهابها المحتمل! وإن شئت تدليلاً على هذا التحليل فإليك واقعة من عام ٢٠١٨ بطلها نتنياهو أيضًا وهو رئيس وزراء حينها، إذ خرج علينا (بالمخالفة لكل أصول العمل الاستخباري السري) بتسجيل عالمي مصوّر يفخر فيه بنجاح الموساد في اختراق البرنامج النووي الإيراني ونقل أرشيفه بالكامل (من ملفات ورقية وأقراص إلكترونية وغيرها) من قلب إيران إلى إسرائيل! كل هذا العدوان والاختراق لم يستثر إيران، بل أثارها استهداف بيت آمن لحرسها الثوري ومقتل عدد قليل من جنرالاتها فيه؟! أيهما أولى بالانتقام؟! علمًا بأن العام نفسه (٢٠١٨) شهد استهدافات إسرائيلية أخرى لمصالح وعناصر إيرانية، وشهد أيضًا عدوان إسرائيل على غزة!

لو كان من ختام لهذه الأفكار الأولية في تحليل الموقف فسأقول: كل شيء هين إلا سقوط الدولة، وكل شيء يهون في سبيل امتلاك أفضل قدرات التأمين العسكري للدولة، وكل موقف مصطَنع أولى بالكشف والفضح. وحقًا وصدقًا: كل واحد منا مهما علا شأوه أو دنا شأنه على ثغر من ثغور الوطن... فاحذر أن يُؤتَى الوطن من قِبَلِك!

تم نسخ الرابط