إذا رأيت حمرةَ الخجل تصبغ وجه الفتاة إذا بدر منها ما لا يليق فاعلم أنها حَيِّـيَّـةٌ، نقية المعدنِ، طيبة العنصر، وتلك صفة امتدحها الإسلام وجعلها خلقَه الأصيل؛ فإن" لِكُلِّ دين خلقا ، وخلقُ الإسلام الحياءُ"سنن ابن ماجة/4181
وتأمل كيف أثنى الله على تلك الفتاة الطاهرة العفيفة ابنة شعيب عليه السلام عندما جاءت تنقلُ دعوةَ أبيها لفتى غريبٍ، فلم يصفها بالحياء في إقبالها عليه فحسب، بل جعل الحياء كأنه مركبٌ لها، وهي متمكنة منه، مالكةٌ زمامَه، مبالغةً في اتصافها به، وكمالِه فيها، لأنها جاءته غيرَ متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة، ولم تزد في حديثها على ما أمرت بتبليغه، قال تعالى:" فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ " القصص/25
وأعجب منه حياء السيدة عائشة رضي الله عنها عندما كانت تدخل بيتها الذي دفن فيه زوجها رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى جواره والدُها الصديقُ أبو بكرـ رضي الله عنه ـ فكانت تضع عنها بعض ثيابها، فلما دفن عمر بن الخطاب إلى جوارهما لم تدخل إلا وثيابُها مشدودةٌ عليها حياء.
تقول الطاهرة المطهرة "كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ "مسند أحمد/25660
فأنزلتْ عمرَ ـ رضي الله عنه ـ بعد موته منزلته في حياته .
وحياء فاطمةُ بنت عتبة ـ رضي الله عنها ـ من أروع نماذج الحياء، تقول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها:" جَاءَتْ فَاطِمَة بِنْت عُتْبَةَ تُبَايِع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَزْنِي، فَوَضَعَتْ يَدهَا عَلَى رَأْسهَا حَيَاءً، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَة: بَايِعِي أَيَّتهَا الْمَرْأَة، فَوَاَللَّهِ مَا بَايَعْنَاهُ إِلَّا عَلَى هَذَا، قَالَتْ: فَنَعَمْ إِذًا " مسند الإمام أحمد/ 25175
لقد وضعت يدها على رأسها ذهولا وحياء واستغرابا من سلوك يخالف الفطرة، وينافي العفة، ويخدش المروءة ، فبايعت وهي مُسْتحيِيَةٌ أن تردد بنود البيعة التي وردت في قوله تعالى :"يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ"الممتحنة /12
فالحياء خلقٌ يحض على اجتناب القبيح، وكلِّ ما يُورث نقصا ولا يكسب كمالا، لذا جعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرينَ الإيمان، إذا رُفع أحدًهما رُفِع الآخر، فيقول :" إن الحياء والإيمان قُرناء جميعًا، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر" المعجم الكبير للطبراني/1575
ويكون الحياء في أسمى منازله وأكرمِها من الحق ـ سبحانه ـ على حد ما أمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابَه فقال:" اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبَلاءَ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"المعجم الصغير للطبراني/494
إن حمرةَ الخجل التي تعلو الوجه في بعض المواقف لهي دليلُ نبلٍ وصلاحٍ وكرمِ أصلٍ وتنشئةٍ فاضلة.
أما إذا رأيت الوجه صفيقا بليدا فاعلم أنه لإنسان لا وازع له عن سفاسف الأمور، ولا رادع له عن مباذل الأخلاق؛ فالمرء إذا لم يستح صنع ما شاء.
اللهم حسن أخلاقنا، واجعل الحياء شيمة لنا