السبت 18 مايو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

في مثل هذه الأيام من كل عام تحل علينا ذكرى غالية، ألا وهي ذكرى ميلاد إمام الدعاة وشيخ المفسرين الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي- رحمه الله-، والذي ولد في 15 أبريل عام 1911م، بقرية دقادوس، مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية، وتوفي في 17 يونيو 1998م عن عمر يناهز السابعة والثمانين عاماً.

ويُعد الشيخ –رحمه الله- أحد أعلام التجديد في العصر الحديث؛ وذلك لما قدمه من جهود مباركة لخدمة الدعوة الإسلامية في مصر والعالم الإسلامي والعربي، وقد تعددت هذه الجهود المباركة ما بين خطابة وتدريس وإفتاء، ومن أجلها وأعظمها ما قدمه –رحمه الله- من خواطره حول القرآن الكريم، والتي ظهر فيها مدد الله تعالى له، حيث سهولة العبارة وجمال الأسلوب وملكة الإلقاء التي استفاد منها العامة والخاصة، وقد وضع بهذه الخواطر أسلوباً جديداً في خدمة كتاب الله تعالى.

وقد كان إمام الدعاة –رحمه الله- محباً لعمله ومجتهداً في تبليغ الدعوة إلى الله تعالى بكل حب، حيث كان يقول: "يعلم الله أني ما أقبلت على لقاء أو تسجيل أو ندوة أو حديث إلا وأنا أدرك حلاوة ما أقبل عليه، فأنا أشعر أني أكمل ديني، لأني أنقل للغير ما منحني الله وجاد علي به من فكر". 

وعن جهوده ومكانته يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي –رحمه الله-: "كان له أثر كبير في نشر الوعي الإسلامي الصحيح، وبصمات واضحة في تفسير القرآن الكريم بأسلوب فريد، جذب إليه الناس من مختلف المستويات الثقافية. 

ولعلك إذا تأملت في سر الفتح والتوفيق والقبول على مولانا إمام الدعاة –رحمه الله- وحب الناس له ستجد أن هذا الفتح له عدة أسرار، منها: أن سر القبول والوصول لهذه المنزلة عند الناس وحبهم له وتملكه لقلوبهم إنما هو محض فضل من الله تعالى، فإنه سبحانه إذا أحب عبداً وضع له القبول في الأرض، وذلك كما جاء في الحديث: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض". 

فهذه المحبة التي حباها الله تعالى للشيخ في قلوب الناس إنما هي من الله تعالى، وفي ذلك يقول الإمام ابن حجر –رحمه الله-: " والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه، ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله، ويؤيده ما تقدم في الجنائز أنتم شهداء الله في الأرض والمراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له، وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم خير الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعاً لله محباً له، ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم دفع الشر عنه ما أمكن، وقد تطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله..." (فتح الباري 10/ 476). 

ومن ذلك أيضاً الإخلاص، وهو عمل من أعمال القلوب لا يطلع عليه إلا الحق سبحانه وتعالى، وإذا أخلص العبد في أقواله وأفعاله وأحواله رزقه الله تعالى التوفيق والقبول، وهذا ما رأيناه في حياة إمام الدعاة –رحمه الله- أن هذا القبول والفتح والتوفيق ما هو إلا بركة من بركات إخلاص الوجهة للحق سبحانه، وفي ذلك يقول الإمام الجنيد –رحمه الله-: "الإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله"، وقال مكحول -رحمه الله-: "الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازياً سواه". 

وفي سر الفتح والقبول على إمام الدعاة يقول الدكتور مصطفى محمود –رحمه الله-: "إن ما أعطى الله من قبول لداعية مثل الشيخ الشعرواي -رحمه الله- ليس مصادفة، وما كُنّا نرى من صفوف متراصة من مستمعين صغارًا وكبارًا وشيبا وشبابًا تتحلق أبصارهم وأسماعهم حول الرجل وهو يلقي عليهم دقائق في علم النحو والصرف فيتابعوه في لهفة وشوق وكأنه يلقي عليهم أغنية. إن الرجل لا يستطيع وحده أن يفعل هذا، ولكنه الفتح والقبول وشرح الصدور وما يفعله الله مما لا نعلم ومما لا يعلم أحد حتى الشيخ نفسه".

ومن أعظم أسرار الفتح في حياة مولانا إمام الدعاة –رحمه الله- ذكر الله عز وجل، ومما يروى في هذا الصدد ما ذكره الشيخ أحمد كفتاور مفتي سوريا السابق حيث قال: "كنت العام الماضي في زيارة الشيخ الشعراوي رضوان الله عليه وقد كان مريضاً و كان متكئاً على مخدتين أمامه، فسألته "وأنا أعرف السر" فقلت له: ما هو السر فيما فتح الله به عليك؟! فأجابني وقد مد يده إلى جيبه وأخرج "سبحة" وقال: بهذه، يعني بكثرة ذكر الله، فذكر الله تعالى مفتاح كل خير وفي الحديث القدسي: "أنا جليس من ذكرني"، وقد قال أحد العارفين: أنا أعرف متى يذكرني ربي فتعجب المستمعون إليه كيف ذلك؟! و قد انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد عليهم قائلاً: عجباً لكم أما قرأتم قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} وقوله في الحديث القدسي: "أنا جليس من ذكرني".

خدمة كتاب الله

كما أن الشيخ –رحمه الله- مع كل ما بذله من خدمة كتاب الله تعالى والدعوة الإسلامية في الداخل والخارج إلا أنه كان متواضعاً ويرى أن كل هذا لا فضل له بل فضل جود من المولى سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً سر من أسرار الفتح والقبول عليه –رحمه الله-، حيث وصف تفسيره للقرآن الكريم بأنه "فضل جود، لا بذل جهود"، وكان يقول: ""فهذا حصاد عمري العلمي، وحصيلة جهادي الاجتهادي، شرفي فيه أني عشت كتاب الله، وتطامنت لاستقبال فيض الله، ولعلي أكون قد وفيت حق إيماني، وأديت واجب عرفاني، وأسأل الله سبحانه أن تكون خواطري مفتاح خواطر من يأتي بعدي".

ومع كل هذا لم يعتبر هذا الجهد الذي بذله في خدمة القرآن الكريم تفسيراً بل هو جملة من الخواطر، وهذا من تواضعه –رحمه الله-، حيث قال: "خواطري حول القرآن لا تعني تفسيراً للقرآن، وإنما هي هبات صفائية، تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات، ولو كان القرآن من الممكن أن يفسر لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره". 

ومما يروى في تواضع الشيخ –رحمه الله- أنه ذات يوم ألقى محاضرة في أحد المؤتمرات، فأعجب الناس بها وبحديثه، فحملوه إلى سيارته، فخشي الإمام، على نفسه أن يدخلها خيط من خيوط الإعجاب، فأراد أن يعلم نفسه درساً، في التواضع، فعاد إلى منزله وانتظر حتى جاء وقت الفجر وذهب لتنظيف "حمامات مسجد سيدنا الحسين"، وتصادف حضور الشيخ محمد عبد الحليم الحديدي، أحد تلاميذه للوضوء، فوجد رجلاً كبيراً من ظهره في الحمامات ولم يعلم أنه الشيخ الشعراوي، وأثناء انشغاله بعمله، وجه المياه تجاه الشيخ الحديدي، دون قصد فغضب وبدأ يوجه عتابه للرجل، والذي استدار في هدوء، ليقدم له الاعتذار وهنا كانت المفاجأة، فوجد أن من ينظف حمامات مسجد سيدنا الحسين، الشيخ الشعراوي –رحمه الله-، فأراد أن ينهال على يد الشيخ يقبلها تبجيلاً لشيخه وتوقيراً له وهو ما رفضه فضيلة الإمام الشعراوي -رحمه الله-.

فجدير بالعالم وطالب العلم والداعية أن يتواضع لله تعالى، فمن تواضع لله تعالى رفعه كما قال صلى الله عليه وسلم، فالتواضع سر عظيم من أسرار الفتح والقبول. 

كانت هذه بعض أسرار الفتح والقبول في حياة إمام الدعاة مولانا الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي –رحمه الله- والتي جعلته يصل إلى ما وصل إليه من علم ومكانة في قلوب العامة والخاصة، وهي قليل من كثير في حياته –رحمه الله-، والتي ما أحوج العلماء والدعاة اليوم إليها، مع التأكيد على أن العالم مهما بلغ من علم ومكانة إلا أن الجميع يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الاتفاق أو الاختلاف مع العالم في بعض وجهات النظر إلا أنه يبقى الاحترام والتقدير الذي ينبغي أن يكون عليه الجميع. 

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل

تم نسخ الرابط