الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

(والله إن في الحلق لغصة ، وإن في النفس لشجونا )

(والله إن سلامة الصدر ونقاء القلب لهو رزق)

قد أتَفَهَّمُ المنافسة التي تكون ببن الأقران ، ولكن الذي لا أرضاه ،ولا تقوي نفسي علي تقبله ، أن يصل الأمر في المنافسة إلي حد الحسد والبغض والحقد والكراهية، بل والكيد والتلفيق.

والأعجب أن يُبَرَّرَ ذلك بأنه منافسة الأقران (وأولاد المهنة الواحدة) ومن ثم فهو مقبول .

يقول أبو الأسود الدؤلي:

حَسَدُوا الفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ 

فَالقَوْمُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ 

كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا 

حَسَدًا وَبُغْضًا: إِنَّهُ لَدَمِيمُ

لا والله إن العالم الرباني ليتورك بحضرة العالم الآخر يتلقى علمه ويستزيد إن وجد ذلك عنده ،ولا يجد في ذلك غضاضة أو انتقاصا من قدره ؛ لأنه ينطلق من أن( الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها).

وإن الإداري الناجح ليبني علي ما بني عليه سالفه ،فيعلو البنيان أكثر وأكثر ،وتزداد المؤسسة رقيا علي رقيها ، ويتحلى الجميع بإنكار الذات ، ولا ينشغل أحد منهم بنسبة هذا العمل إليه أو إلي غيره ؛ لأنه ينبغي أن يكون عمله لله ، وهو وحده مكافئه.

و الواجب علي الإداري الكفء - ويأثم إن لم يفعل - أن يقرِّبَ منه أهل الخبرة والمشورة، ويجتهد في البحث عنهم ليصطفيهم ، وينفي عنه خَبَثَ المنتفعين والمتسلقين و(الأرزقية) ؛ لأن هؤلاء المفسدين لا يجني من شجرتهم إلا إبعاد أهل العلم والخبرة والمخلصين، والنتيجة إخفاق وضياع للمؤسسة.

إنّـا مما ابتلينا به أن يجئ اللاحق وكل همه هدم ما تم إنجازه من قبل ، إما بتقبيحه ، وإما بالتقليل من شأنه ، ظنا منه أن شأنه لا يعلو إلا هكذا ؛ لأنه يعمل وفي ذهنه البشر واستمداحهم له ، وهكذا يكون المهرجون والتافهون و(المهنكرون)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن التحاسد بين منسوبي العلم وطلبته قديم جديد ،قال الذهبي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤف رحيم) وجاء في بداية الهداية للغزالي : (واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك- لحسدهم- ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامزون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم، حتى يجابهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة، يحاسبونك على النقير ، والقطمير ، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرضون عليك الإخوان بالنَّمِيمَة، والبلاغات، والبهتان، إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب، وباطنهم ذئاب. هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم، إلا من عصمه الله تعالى؛ فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان. هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة) 

وكما قلت : فرق كبير بين المنافسة أو الغبطة وبين الحسد فالمنافسة: هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده في غيرك لتنافسه فيه لتلحقه أو تجاوزه، فهو من شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر،وفي القرآن الكريم: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: ٢٦].

والحسد مرضٌ يدل على خسة في النفس، ولؤم في الطبع ، ونقص في الإيمان ، وعدم سلامة في القلب، 

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه عن الحسد، فقال: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذَبُ الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا)

وعزاؤنا في هذا الابتلاء أن نصبر ونحتسب ؛ ولذلك قال الإمام المناوي: "من الصبر الحسن التصبرُ على ما ينشأ عن الأقران وأهل الحسد، سيَّما ذوي البذاءة منهم، ووقوع هؤلاء في الأعراض، ونقصهم لما يهمهم من الأمراض، وذلك واقعٌ في كل زمن، وحسْبُك قول الشافعي في "عقود الجمان في الذب عن أبي حنيفة النعمان": كلام المعاصرين مردود، غالبُه حسد، وقد نَسَبَ إليه جماعةٌ أشياءَ فاحشة لا تصدر عمن يوصف بأدنى دين، وهو منها بريء، قصدوا بها شينه، وعدم انتشار ذكره".

ولذلك لَمَّا قيل لابن المبارك: فلان يتكلَّم في أبي حنيفة، أنشد بيت قيس بن الرقيات:

حسَدُوك أنْ رأَوْك فضَّلك اللهُ بما فضِّلت به النجباءُ

اللهم ارزقنا صحبة الأخيار المخلصين ، وابعد عنا الأشرار الشياطين، وافضحهم لنا يارب العالمين حتي لا ننخدع بمعسول كلامهم وبياض أسنانهم .

اللهم ارزقنا سلامة الصدر، ونقاء السريرة ، وصفاء النفس ، والإخلاص في القول والعمل ، حتي لا نرجو سواك.

" اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ". آمين

تم نسخ الرابط