يوميات نائب في المدينة
معاون النيابة وطريق تحقيق العدالة المنشودة
كانت أول جناية عُرضت علىَّ من رئيس النيابة
فى أول عمل لى بإحدى نيابات المدينة الساحلية وكان أول اختبارً حقيقيًا لي ليس لأهمية الجناية لأنها كانت فى الواقع من الجنايات "الروتينية" التى تعرض كثيرًا علي النيابات وكان يختص بها المبتدئين.
بل كانت أول اختبار لى لأنني كنت قد أعددت بحثًا مطولا عن الحبس الإحتياطى وكنت أرى فيه أنه لا ينبغي أبدًا أن يتحول إلى عقوبة مع ما يترتب عليه من آثار سيئة تزداد وطأتها عندما يُقضى فى النهاية ببراءة متهم من التهمة التى نسبت إليه والتى حبس على ذمتها شهورًا طويلة كانت كفيلة بأن تجعل الحكم الصادر بالبراءة هذا هو والهدم سواء.
القضية إذن كانت قضية إحراز مادة الحشيش المخدر ناتجة عن حالة تلبس تُصنع غالبًا بصيغة واحدة منذ ثلاثينات القرن الماضى!
"أثناء مرورنا بدائرة القسم أبصرنا المتهم واقفا بجانب الطريق وما أن شاهدنا والقوة المرافقة حتى أسقط من يده لفافة صغيرة فتتبعناها والتقطناها وبفضها تبين أن بداخلها قطعة صغيرة الحجم بنية اللون من مادة تشبه مخدر الحشيش فقمنا بضبط وتفتيشه...إلى آخر هذه الدباجة.
هذه الرواية العتيقة هى التى كانت تصاغ بها مثل هذه المحاضر وهى وإن كانت تعكس حالة تلبس قانونية بالجريمة إلا أن مصداقيتها تبقي محل شك عند كثير من محاكم الجنايات.
قرأت المحضر وحققت القضية وكنت وقتها معاون نيابة تلقيت ندبًا من رئيس النيابة لتحقيقها.
كان طالبا بإحدى الكليات.. أنكر التهمة وقرر أن مشادة حدثت بينه وبين ضابط الواقعة بسبب طريقة تفتيشه إياه في الطريق العام عندما طلب منه بطاقته الشخصية ولم يبق شئ لإنهاء التحقيق إلا القرار الخاص بالتصرف فى المتهم.
ذهبت إلى مكتب رئيس النيابة
وقلت له: أنا لا أريد أن أحبس المتهم..
قال لى: لماذا ؟ قلت: مستقبله والقضية باتت مصداقيتها محل شك.
ابتسم الرجل وقال لى اصنع ما تشاء.
قلت له سأفرج عنه بكفالة بسيطة..
إبتسم مرة أخرى وقال: أنت حر فى قرارك..!
أفرجت عنه بكفالة خمسون جنيه وبررت له ذلك بأنه حرصًا على مستقبله واتقاءًا لما قد يصيبه من جراء قرار الحبس.
وعندما تهيأت القضية لإحالتها إلى محكمة الجنايات ذهبت إلى مكتب رئيس النيابة وقلت له: أليس من الأجدر أننا بدلاً من إحالة هذه القضية إلى محكمة الجنايات والمضبوطات فيها لا تتعدى بضع جرامات قليلة أن نعد فيها أمرًا بالأ وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية..أو لعدم كفاية الدليل وهو حق قانونى..؟
إن هذا أجدى وأجدر للعدالة كما أنه ليس من المنطق أبدًا أن نحيل قضية إلى محكمة الجنايات ونحن نعلم ما تؤول إليه فى النهاية، إننا إذ نفعل ذلك نهدر وقتًا وطاقة محاكم الجنايات لا سيما وأن التنظيم القانونى الإجرائى يفسح لنا الطريق نحو التقرير فى مثل تلك القضايا بألا وجه لإقامتها للسبب الذى يتفق ووقائعها.
ولقد كان بالفعل أعددت فى هذه القضية مشروع أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية وتمت الموافقة عليه من المحامي العام.
مرت السنون وأصبحت رئيسا للنيابة الكلية ثم محام عام وكنت أصنع نفس الشئ وأذكر زملائى دائمًا بضرورة تفعيل نظام الأمر بألا وجه لإقامة الدعاوى عندما يبدو من وقائع القضية أنها جديرة بذلك.
وأتذكر أنه عندما كانت تُعرض علىَّ وأنا محام عام جناية بها مشروع أمر بالأ وجه لإقامة الدعوى الجنائية فى جريمة مماثلة للقضية التى حققتها وأنا معاون نيابة وحررت فيها مشروع هذا الأمر سألت وكيل النيابة: لماذا ترى الاكتفاء بالسير فى الدعوى الجنائية عند هذا الحد؟.. فيجيب بإجابة مماثلة لما صدرت عني منذ سنوات طوال فأبتسم و أصدر الأمر.
تعاقبت الأجيال.. وكلما وقعت عينىَّ على محضر ضبط بمثل هذه الصيغة البالية تذكرت كل شئ وكأنه حدث بالأمس القريب
وها أنا الآن أدون يومياتى أحاول أن أعيد لحظة مضت من الزمن كانت تختلجنى بكل ما بها من حيوية لأسطرها هنا فوق بضغة أوراق ليس الغاية منها هو مجرد السرد بل لكى نقف لحظة نتأمل إلى أين تسير بنا خطواتنا نحو تحقيق العدالة المنشودة
وربما تساءلت فى نفسى بعدما تقلدت منصة القضاء: هل مازال معاون النيابة هذا موجودًا ..!!