الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي


ليس ثمة انفصال بين الأدب والقضاء.ليس ثمة انفصال بين الأدب والقضاء.
كلاهما نسيج واحد غاية الأمر أن الأدب لا يمثل فقط جزءاً من هذه النسيج بل هو فى حقيقته المادة الأولى التى صنعت هذا النسيج.
لماذا نقول أن الأدب هو المادة الأولى فى هذا النسيج؟
لنرى الإجابة فى هذه الأمثلة:
البؤساء les Miserables 
كتبها فيكتور هوجو عام ١٨٦٢ وهى تمثل بحق واحدة من أعظم ما أنتجه الأدب فى القرن التاسع عشر.
كان لها السبق فى أن تسلط أنظار العالم على ضرورة أن تتبنى النظم القانونية والقضائية سياسة عقابية حديثة غير تلك التى كانت تسود.
إن سرقة خمسة أرغفة لأطفال يتضوعون جوعاً لا تستأهل أبداً السجن عشر سنوات.
الجريمة والعقاب Crime  and Punishment
نشرها "ديستوفسكى" على شكل مقالات فى مجلة الأدب الروسية منذ عام ١٨٦٦.
كان لها الفضل فى أن تنبه الأنظمة القضائية إلى أهمية تفريد العقوبة وعدم تنحية الظروف المحيطة بالجريمة والذى أصبح أحد أهم خصائص العقوبة فى العصر الحديث.
مكبث Macbeth 
لوليم شكسبير.
يعتقد أن الطبعة الأولى لها كانت عام ١٦٢٣ ورغم أن القصة تحمل إحدى أعظم إشكالات الصراع على الحكم فى التاريخ وما كان يزكيه الطموح الزائد فى السيطرة على العرش فى تلك الحقبة التى صور فيها شكسبير قصته إلا أنه رغم ذلك فهذه القصة التى تعد إحدى المسرحيات الأربع الدامية التى اشتهر بها شكسبير وهى "عطيل" "الملك لير" "هملت" "مكبث" والتى كتبها جميعاً فى فترة حالكة الحزن فى نفسه اقتربت بشكل غائر إلى عمق الصراع النفسى الذى يأخذ القاتل إلى جريمته ثم كان أن قدمه لنا هذه المأساة أصدق تصوير عن التحريض على القتل وهو جوهر الموضوع الذى نناقشه 
فلنرى إذن ماذا صنعت مكبث بشأن وصف التحريض على القتل وكيف رأته النظم القانونية والقضائية بعد ذلك.
فى "مكبث"
ربما كانت "لادى مكبث" الزوجة هى المحرض الأول الذى شق طريقه فى الأدب العالمى. 
هى زوجة القائد "مكبث" هذا القائد الذى طالما كان مخلصاً لملك اسكتلنده الطيب "دنكان" والذى طالما دافع عن عرشه وانتصر وكان الملك يحبه حباً جماً حتى أنه جعل منه قائد جيوش اسكتلنده كلها وكذلك كان "مكبث" يبادله هذا الحب لكن هذا القائد وحال عودته من إحدى الحروب التى انتصر فيها تقابله ورفيقه "بانكو" وهو قائد ثان للجيش ثلاث من بنات الجن فيلقين عليه بثلاث نبوءات.
الأولى حيته بوصفه سيد مقاطعة "جلاميس" والثانية حيته بوصفه نبيلاً وسيداً على ولاية "كودور" وأما الثالثة فحيته بوصفه ملكاً على اسكنلنده.
عند وصول "مكبث" إلى الديار أخبر زوجته بتلك النبوءات الثلاث وكان أن تحققت بالفعل النبوئتين الأولى والثانية وبقيت الثالثة وهنا يأتى دور "لادى مكبث" فى زرع فكرة الجريمة فى ذهن زوجها القائد الذى طالما عاش مخلصاً لملك اسكتلنده.
كانت السيدة مكبث من أجل الوصول إلى الملك تدرك حقيقتين: فأما الأولى فهى أن تحقيق النبوءة الثالثة وهى أن يصير زوجها ملكاً ومن ثم ينتقل الملك إليها رهن بمقتل ملك اسكتلنده. 
وأما الثانية فكانت فى إشكالية إخلاص زوجها للملك ولينة قلبه ومن ثم فقد جاء دور بث السم أو دور التحريض على القتل.
هى تخاطب زوجها بقولها:
"أنت غطريف "كلاميس" وغطريف "كودور" وستكون ما ذكرت المتنبئات. غير أننى لا آمن عليك طبعك ، فإن فيه لين الشفقة ، ما يردك عن طلب غايتك.
من أقوم ، طريق تتمنى العلياء ، وفيك مطمع ، غير أنك فاقد المكر الذى يوصل إلى العلياء.
مرمى نظرك بعيد إلا أنك تبغى إدراكه من أطهر المسالك ، تأنف أن تستبيح كل حُرِّم من وسائل الالتماس ، ولكن لا تأنف من كسب غير المحلل ، قلبك مولع بالحصول على تلك النعم التى تناديك:
"هذا مأٌخَذى فخُذنى". بيد أنك تخشى مباشرة الفعل الذى يؤدى إلى الربح ، ولو فعله غيرك لما ساءك ، فتعالى لأفرغ فى أذنك الحماسة ، والشجاعة ، تعال لأزيل ببأس لسانى ضعف نفسك ، وأبدِّد الوساوس الدنيئة ، التى تعوق يدَك عن غصْب الإكليل الذهبى الذى نريدا لمقادير إرادةً ظاهرة أن تضعه على جبهتك"
كانت "لادى مكبث" قد بثت السم فى نفسها قبل أن تبثه فى نفس زوجها.
هى تقول: " أيتها الروح التى توحى بنيات القتل ، جردينى من أنوثتى ، افعمينى جفوةً وقسوة من رأسى إلى قدمى ، اقفلى فى ضميرى كل منفذ تنفذ منه الشفقة ، لا تأذنى للرحمة أن تتلطف شرتى أو تكُف يدى ، حوِّلى فى ثديي لبن المرضع إلى سُمِّ نقيع ..
وأنتِ أيتها الليلة اليلاء ، ارخى من سدولك وائتزرى بكسْف من دًخان السعير حتى لا يرى خِنجرى المسنون موقعه من الطعين ، وحتى لا تدعى لمتطلع من الشعاع مسلكاً ينظر منه تحت غِطاء السماء ، فيرى أسرار جريمتى ، ويصيح بى: مكَانُك مكَانُك"
ولأن "لادى مكبث" تعلم أن سريرة زوجها يغلب عليها النقاء فتوصيه بهذه الكلمات وهو يتظاهر باحتفاء ملكه الذى كان على موعد تلك فى الليله لزيارته هنا فى "قصر أنفرس" حيث تسكن هى وزوجها فتقول مخاطبة له:
It is dangerous to speak the face. Let your forehead conceal what is in your heart.
من الخطر أن يتكلم الوجه.
فليكتم جبينك ما فى قلبك.
كان الصراع النفسى يمزق أوصال "مكبث" بين الفعل واللافعل. 
بين الاخلاص والخيانة.
بين المجد النبيل وإن زهدت علياؤه وبين المجد المهيب الذى لا تخفت أضواؤه.
بين القتل واللاقتل. 
هو يحدِّث نفسه قائلاً:
"ولكن إزهاق الروح إنما هو من الجرائم التى يماشيها عقابها فى الدنيا.
فمن سفك دم غيره ، عرض دمه للسفك ، ومن دس سماً فى كأس ، قضى العدل عليه قضاءً لا مرد له بأن يعيد الكأس إلى شفتيه"
كان "مكبث" يعلم أن الملك الطعين يعصمه من دمه عاصمان.
قرباه منه وعطفه عليه.
ثم أنه فى تلك الليلة ضيفه.
فكيف يتسنى ليد أن تفسك دماء من يعصمها عنها مثل هذين العاصمين ..!
وكان كلما خاطب زوجته بأنهما يجب أن يتوقفا عن هذا العبث إلى هذا الحد وقد أتى إليه الملك ضيفاً بلا سيف بثت السم فى عروقه قائلةً:
اتخشى أن تسمو أفعالك إلى رتبة آمالك ... أتريد أن تملك ما تعده زينة الحياة الدنيا ، من غير أن ترقى فى خاصة نفسك من مكانة الجبان ، الذى يدفعه الأمل ويمنعه الوجل ، كذلك السنور (فصيلة من الحيوانات الثديية مثل الأسود والنمور) الذى قيل إنه يحب الماء ويكره البلل"
وتمكن السم من نفس "مكبث" بعدما غدا دمية بين يدى زوجته وانتوى ومضى وقتل وتلطخت يديه بدماء ملكه دون أن تبتئس نفسه التى ظلت تصارع الشيطان إلا أنها هوت فى النهاية تحت وطأة التحريض إلى مهاوى الجريمة.
فى كل النظم العقابية تعرف الآن نظرية الفاعل والشريك وذلك باعتبار أن الجريمة سلوكاً انسانى معقد وليس باليسر الذى نتصور معه أن يأتى فى كل حال بسيطاً.
إن الصورة الأولى التى جاءت عليها جريمة القتل كانت بين شخصيتين هما القاتل والمقتول. ولم هى الصورة الغالبة اليوم. من أجل ذلك وضعت النظم العقابية بعد أن عرفت معنى فاعل الجريمة.
وضعت نظرية تكشف لنا عن متى يعد الشخص شريكاً فى الجريمة ولقد نص قانون العقوبات المصرى على ثلاث صور على سبيل الحصر يجب أن يتوافر إحداها لكى تثبت صفة الشريك فى الجريمة (المادة ٤٠ من قانون العقوبات) جاءت الصورة الأولى فيها كالتالى:
يعد شريكاً فى الجريمة:
أولاً: كل من حرض على ارتكاب الفعل المكون للجريمة إذا كان هذا الفعل قد وقع بناء على هذا التحريض. 
ولم يحدد المشرع المصرى المقصود بالتحريض تاركاً ذلك للفقه والقضاء وهذا نهج شائع فى نصوص التجريم. ومن ثم كان على الفقه والقضاء أن يتصدى كل منهما لتحديد ماهية التحريض الذى يمثل الصورة الأولى فى الإشتراك.
وبناء على ذلك فقد اهتدى الفقه المصرى وكذلك اهتدت محكمة النقض المصرية إلى أن التحريض هو: " خلق فكرة الجريمة والتصميم عليها فى ذهن كان فى الأصل خالياً منها أو متردداً فيها بقصد ارتكابها "
فنشاط المحرض وكما يقول أستاذنا الدكتور زكى أبو عامر هو فى حقيقته نشاط ذو طبيعة معنوية وليست مادية ذلك أنه يتجه بنشاطه إلى معنويات الفاعل أو إلى نفسيته وهو ما حمل بعض الشرائع على أن تسميه بالمساهمة المعنوية على سندٍ من أنه يتجه إلى معنويات الفاعل كمل سبق القول.
ولقد استقر الفقه المصرى وكذلك أحكام محكمة النقض المصرية — وكذلك محكمة النقض الفرنسية – 
على أن هناك عدة شروط لكى يصدق على التحريض وصف الاشتراك فى الجريمة هى كالتالى:
– أن يكون الجانى قد توصل إلى خلق فكرة الجريمة والتصميم عليها فى ذهن كان فى الأصل خالياً منها أو متردداً فى ارتكابها ثم يأتى دور المحرض ليزيل هذا التردد فى نفس الفاعل ويحرره من الصراع بين ارتكابها أو الإحجام عنها وذلك بتحبيذ آثارها والتهوين من تبعاتها.
– ويلزم أن يتوجه هذا التحريض إلى شخص لم يفكر من قبل فى ارتكاب الجريمة أو على الأقل كان متردداً فى ارتكابها.
– كما يلزم أن يكون موضوع التحريض هو ارتكاب جريمة أو جرائم معينة وبطريقة مباشرة وأن يكون لدى المحرض قصد ارتكاب الجريمة املاءً لنظرية القصد الجنائى الذى لا تقوم الجريمة العمدية إلا بها وأن يقع الفعل المكون للجريمة بناء على هذا التحريض.
فإذا اكتملت للتحريض هذه الشرائط فلا يهم بعد ذلك الوسيلة التى وقع بها ْ فكل الوسائل فى القانون المصرى سواء طالما كان من شأنها خلق فكرة الجريمة والتصميم عليها على النحو الذى أشرنا إليه.
ليس هناك صورة يمكن أن تجسد معنى التحريض على الجريمة أكثر جلاءً وعبقرية مما صوره شكسبير فى "مكبث" وليس هناك عبارة تقاسمها الفقه الجنائي ومحكمة النقض المصرية للكشف عن ماهية التحريض أكثر من أنه زرع فكرة الجريمة فى ذهن كان فى الأصل خالياً منها أو متردداً فيها بقصد ارتكابها.
إن بين الأدب والقانون خيط رفيع كثيراً ما تلاشى ببن حدود الكلمات وما أعظمه من تلاشى عندما يتمخض عنه هذا الثراء الفكري والوجداني.
 

تم نسخ الرابط