شاهدت علي مواقع التواصل أحد الأشخاص يذكر هذه العبارات والحكم فيقول:
"خيرُ الناسِ من كفَّ فَكَّهُ وفكَّ كفّه
وشر الناس من فكَّ فكه وكفَّ كفّه
فكم من فَكَّةِ كفٍ كفَّت فكوكهم
وكم من كَفَّةِ فكٍ فكّت كفوفهم
فكُفّوا فُكوكَكم وفُكّوا كفوفكم .!!! "
فهذا الكلام لم نجد له ذكرًا في المصادر الموثوقة من الكتب التي اعتنت بذكر الأحاديث والآثار ـ سواء الصحيحة منها أم الضعيفة أم الموضوعة ـ ويمكن أن يكون من كلام بعض الأدباء الظرفاء، وليس من كلام أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب -كما قيل -.
وفيه محسن لفظي من المحسنات البديعية يسمي «جناس القلب»، وهو ما اختلف فيه اللفظان في ترتيب الحروف، نحو: «حسامه فتحٌ لأوليائه وحتفٌ لأعدائه» ويُسمى «قلب كلٍّ» لانعكاس الترتيب بين لفظي " فتح وحتف "،
ونحو: «اللهم استر عوارتنا وآمن روعاتنا»، ويُسمى «قلب بعض» بين لفظي" عوراتنا وروعاتنا "،
ونحو: «رحم الله امرأ أمسك ما بين فكيه، وأطلق ما بين كفيه» ،جانس بين لفظي " فكيه وكفيه " جناس قلب .
والمحسن هنا في هذه الحكم والمواعظ مستكره لكثرته وتكراره وتكلفه.
ومعني العبارات الواردة:
( خير الناس من كف فكه ) ؛ أي أسكت لسانه الذي يسكن بين فكيه عما يؤذى الناس بالقول الباطل وشهادة الزور والغيبة والنميمة والبهتان وهتك أعراض الناس بلسانه .
( وفك كفه ) ؛ أي بسط يده بالجود والكرم لمن يستحق من الفقراء والمساكين والسائلين ، وإطعام الطعام فى المناسبات التى بها يجتمع الأحباب والجيران والأصدقاء فتتولد المحبة وتتجدد .
( وشر الناس من فك فكه ) ؛ أي ترك لسانه عاريًا من الحياء والخجل والخوف من الله ، يقول وهو ليس بنفسه على لسانه رقيب ، فأذى الناس بثعبانه الذى يسكن بين فكيه .
( وكف كفه ) ؛ أي قبض وأمسك يده عن العطاء فصار بخيلًا بين الناس شحيحًا عن الإقدام على فعل الخير بالمساعدة وغيرها .
( فكم من فكة كف ) ؛ أي كم من تنفيذ فعل طيب وبسط اليد بالخير ، كفت فكوكهم ؛ أي جعل الغير يغلقون أفواههم عن ذكره بسوء .
( وكم من كفة كف ) ؛ أي كم من عدم تنفيذ الفعل الطيب بقبض اليد وعدم العطاء ، فكت كفوفهم ؛ أي جعل الناس يفتحون أفواههم بكلام يؤذي صاحب قبض اليد .
( فكفوا فكوككم ) ؛ أي أغلقوا أفواهكم عما يسىء إلى الناس ، ( وفكوا كفوفكم ) ؛ أي أبسطوا أيديكم بالخير والعطاء ونفذوا أفعالكم بما يعود على الناس بالنفع ، ووعودكم كذلك .
اللهم اجعلنا ممن يكفون فكوككهم ، ويفكون كفوفهم .. واجعلنا ممن يضمن لهم رسول الله ﷺ الجنة .
بغض النظر عن جميل معناها ، إلا أن ألفاظها فيها من التكلف والثقل المحسوس من كل قارئ لها.
و النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يحبون السجع في الخطب وفي الدعاء حذرا من التكلف ومشابهة الكهان، وأما السجع الذي يأتي بغير تكلف فكان يفعله أحيانا.
ومن المعلوم أن للدعاء آدابا وشروطا للصحة بَيَّنَها السادة العلماء منها:
أن لا يتكلف الداعي السجع في الدعاء فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع والتكلف لا يناسبه قال صلى الله عليه وسلم : " سيكون قوم يعتدون في الدعاء " وقد قال عز وجل : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين قيل : معناه : التكلف للأسجاع والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته فما كل أحد يحسن الدعاء ؛ ولذلك روي عن معاذ رضي الله عنه أن العلماء يحتاج إليهم في الجنة ؛ إذ يقال لأهل الجنة تمنوا ، فلا يدرون كيف يتمنون حتى يتعلموا من العلماء وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والسجع في الدعاء حسب ، أحدكم أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل " وفي الخبر : " سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور " ومر بعض السلف بقاص يدعو بسجع ، فقال له : أعلى الله تبالغ ؟! أشهد لقد رأيت حبيبا العجمي يدعو وما يزيد على قوله : اللهم اجعلنا جيدين اللهم لا تفضحنا يوم القيامة ، اللهم وفقنا للخير والناس يدعون من كل ناحية وراءه وكان يعرف بركة دعائه .
وقال بعضهم : ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق .
واعلم أن المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات متوازنة لكنها غير متكلفة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أسألك الأمن من يوم الوعيد ، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود ، والركع السجود ، الموفين بالعهود ؛ إنك رحيم ودود وإنك ، تفعل ما تريد " وأمثال ذلك فليقتصر على المأثور من الدعوات أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف فالتضرع هو المحبوب عند الله عز وجل .
وكذلك الوعظ والإرشاد لا بد أن يسلم من هذا التكلف .