هل يمكن لي يوما أن أؤلف كتابا وأهديه إلى ذي سلطان أو جاه لأنال رضاه، أو أن أجعله وسيلة وسبيلا إلى نظرة من عطفه وجوده؟
إن ذلك لو حدث، فإنني لا شك أفقد احترامي لنفسي وأفرط في قيمتي وأهين علمي الذي تعلمته، بل أنظر لهذه اليد التي كتبت هذا التزلف لأراها وقد اقترفت أبشع الذنوب، واجترت على ذاتها وصمة عارا لا يمحوها الزمان ولا تنساها الأيام.
فالعلم قرين العزة، وإذا فرط الكاتب أو المصنف في عزته وكرامته، فما أرخصه وأحقره.
لقد رأيت يوما عالما أزهريا معمما ومن التناقض العجيب أن اسمه مشتق من الكرامة، رأيته يوما يقول بملء فيه: أنا من علماء السلطة، وكان حزينا غاية الحزن أن تم تهميشه وعدم الالتفات إليه.
وهو لا يعلم أن حالة الرخص التي تشبثت به، هي ما جعلته رخيصا -هلفوتا- في أعين من يطلب ودهم.
ولو أنه اعتز بنفسه وعلمه، لهرول الجميع إليه، ولكنه أهان نفسه قبل أن يهينه غيره.
ومثل هذا لو طلب منه او عرف أن كتابة الكتب في السادة والكبراء تقربه منهم، لكتب فيهم المجلدات الضخام، مسبحا بحمدهم، طالبا قربهم منافقا لهم.. لأنه لا يحترم علمه أو ينزه قلمه، فهو من عبيد الدنيا وليس من أحرارها.
في تراثنا الأبي قرات أن الإمام النسائي خرج إلى الشام وفي نيته نشر العلم النافع، ورد ما غالى من أهلها على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، فلما وصل إلى الرملة بفلسطين، عقد مجلسًا للتحديث بجامعها الكبير، وأخذ في رواية الأحاديث في فضل علي -رضي الله عنه- وآل البيت وفضل الصحابة، وكانت بلاد الشام معقل الأسرة الأموية وقاعدة ملك بني أمية، فلما أخذ النسائي في رواية أحاديث فضل الصحابة، طلبوا منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فامتنع النسائي من ذلك؛ لأنه وبمنتهى البساطة لم يخرّج حديثًا في فضل معاوية، ومروياته كلها ليس فيها حديث واحد في ذلك، فألحوا عليه، فرفض بشدة، فألحوا عليه أكثر وشتموه، فرد عليهم بكلام شديد أحفظهم، إذ قال لهم:" أي شيء أخرج؟ حديث اللهم: لا تشبع بطنه"، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، ولكن ليس للنسائي سند في مروياته ليخرجه به ويحدثه للناس.
ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فقد اعتبر الجهلة والمتعصبة لبني أمية أن النسائي شيعياً رافضياً، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين،فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، أن قام بعضهم بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام مريضاً مدنفاً، ومات من أثر الاعتداء عليه، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء.
فهل رأى صاحبنا قصة الإمام النسائي ليتعظ بها ويحاكيه ويتعلم منه عزة العالم، واحترام العلم، أن أم النفاق صار مرضا في النفوس، لا يجدي أمامه توقير لدين أو ضمير.؟
كان حكام المسلمين في الأندلس يشجعون العلماء على التأليف والتصنيف، ويرصدون لهم الأموال الطائلة، وكان العلماء يتسابقون في هذا المسار ويهدون كتبهم للملوك والرؤساء، طلبا للقرب والمال، ومع هذا وجد مؤلفون لم يتصلوا بصاحب سلطة ورفضوا أن يضيفوا اسمه في مؤلفاتهم وأصرُّوا على أن علمهم خالصٌ لله تعالى؛ ومن هؤلاء العالم اللغوي ابن التياني (ت436هـ/1044م) صاحب كتاب "تلقيح العين" والذي حينما علم به الأمير أبوالجيش مجاهد العامري أمير مرسية، أرسل إليه ألف دينار وكسوة فاخرة، على أن يهدي الكتاب إليه وذلك بإضافة عبارة «مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش » لكنه رفض بشدة، فكان أن زاد ابن التياني في عين مجاهد وعظم في صدور الناس، ونقل الحميدي عنه أنه قال بهذه المناسبة: «والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب؛ فإني لم أجمعه له خاصة، ولكن لكل طالب علم عامة فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها»
فلله دره ما أسماه وأجله وأعزه وأحكمه، لم يتزلف بعلمه أو ينافق بقلمه، لأنه كان يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
منذ أيام كتب صديقنا النابه عبد الهادي عباس مقالا ضافيا في أخبار اليوم عن الأستاذ العقاد وأبان فيه صفحة من إبائه وسموه واعتزازه بعلمه وقلمه وأدبه، من أن يساومه أحد عليه، فيغريه بمال أو مكانة.
فليس العقاد ممن ترخص نفوسهم، او تزل كرامتهم، فيفرطون في مبادئهم، واعتزازهم بكبرياء أقلامهم.
نقل صديقنا ما ذكره الأستاذ «أنيس منصور» فى كتابه الشهير عن صالون العقاد كانت لنا أيام أن اليهود مارسوا ألاعيبهم مع الأستاذ وعرضوا عليه أن يكتب عن (عبقرية الكليم) أو عن (موسى بن ميمون)، وأنهم سيوفرون له مئات المراجع اللازمة، وسيترجمون الكتاب إلى عشرات اللغات الأخرى؛ ولكن العملاق رفض هذه المساومات وفطن إلى ما وراءها من تكتلات ومخاتلات صهيونية لاستقطاب الكتّاب وإرهابهم وتشويه صورتهم، مثلما فعلوا مع «فرويد» رغم أنه ربيبهم وابن جلدتهم، وغيره من أولئك الذين فكّروا أن يُخالفوهم، ولو فى بعض الرأي!
وهو نفس ما تكرر حينما ارسل إليه القصر رسولا وهو هيكل باشا يعرض عليه او يؤلف كتابا يمدح فيه الملك فؤاد مقابل 4000 جنيه
فكان جواب العقاد : إذا ألفت كتابا عن الملك فؤاد فلابد أن أقول إنه كان عدو الدستور.. فسكت الوسيط عن نعم ولا ، وعاد ليبلغ السراي جواب العقاد.
والعقاد لم يكن من الأغنياء حتى يعززه الغنى أمام هذا المال الفتان، بل كان من أفقر الأدباء وأكثرهم حاجة، لكن الكرامة والمبادئ عنده لا تقبل المساومة.
ورحم الله هذا الطود الشامخ الذي قال يوما:
"أجمل ما في الحياة يوم تملك فيه نفسك، فتعلم أنك ملكت الثروة التي لا يُقاس بها ملك المال، ولا ملك اللذة، ولا ملك الثناء."