"سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ " النمل/27 قالها سليمان ـ عليه السلام ـ للهدهد عندما برَّرَ الأخيرُ غيابه قائلا:"أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ . وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ" النمل/22ــ24
وكان سليمان ـ عليه السلام ـ قد توعد الهدهد ـ لغيابه دون إذن ـ بالعذاب الشديد أو الذَّبْحِ إلَّا أن يأتيَ بحجة تبرِّرَ تغيُّبَه.
قالها سليمان ـ عليه السلام ـ عملا من بمدأ التبيُّن؛ كي لا يأخذ أحدا ظلما، ولو كان المأخوذ طيرا، قالها رُغْم تأكيد الهدهد أن نبأه يقينٌ لا شكَّ فيه، واستبعادِ أن يكون كاذبا؛ كونُه من الجند المحشورين لسليمان: جِنًّا، وإِنْسًا، وطيْرًا، يأمرُهم فيأتمرون، وينهاهُم فينتهون، ولا عجب؛ فقد سخر الله له الرعية كلها.
وهو أصل عظيم علَّمه لنا الحق، وأمرنا به، حتى لو كان الخبر نبأً، أي: أمرا عظيما، حتى لا يُفتحَ البابُ لجولان الظنون والأوهام في الخواطر، فيبني المرءُ عليها أحكامَه انصياعا لها وكأنها حقائق، يقول سبحانه :" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ"الحجرات/6
فيأمرنا بالتَّبيُّن، أي: التَّثبُّتِ، وطلبِ بيان الأمور، وعدم التعجل؛ لما يلحقه من تتبُّعٍ للخواطر الخاطفة الخاطئة. وفيه إلى جانب ذلك تحذيرٌ من بناء الأحكام على مجرد الخواطر والظنون .
هذا التوجيه الربانيُّ يعمل به القضاء المِصري؛ فيحكم بالبراءة متى تشكَّكَ في صحة إسناد التهمة، أو عدم كفاية أدلة الثبوت. وإن حكم بغيرها، اشتمل حكمُه على ما يفيد أن القاضيَ قد محَّصَ الدعوى، وأحاط بظروفها، فلا يكون اتهامٌ، أو حكْمٌ إلا عن بصرٍ وبصيرة؛ مما يجعله أثرا من آثار رحمة الله في بلادنا، وملاذا يلجأ إليه من يُتَّهَمُون بهتانا وزورا .
وفي التبيُّنِ حكمة عظيمةٌ تكمن في: حفظِ الأواصر والوشائج بين أفراد المجتمع: أزواجا، وأبناء، وإخْوةً، وجيرانا، وزملاءًا، وبثّ الثقة والأمان بينهم، وطرح ما من شأنه إدخالُ الشكّ في نفوسهم؛ لأنّه باب إن فُتِحَ فَسَدُّه عسيرٌ، فالمرءُ كما يتّهمُ غيرَه، فللغير أن يتَّهمَه، فترتفع بذلك الثقة، وتحُلُّ الظنون بين الناس، ويسهل على الفاسقين المروقُ والصوَلانُ والجوَلان؛ لأن التهمة باتت تُظلّ الصادق والكاذب، والنبيل والخسيس.
"التحذير من قبول الأخبار دون تثبت "
وإلى جانب تلك الحكمة تلمس تحذيرا من قبول الأخبار،أو اختلاقها، والعملِ بها دون تثبُّتٍ؛ لما يترتب عليه حال كذبها من إصَابةِ الناس ظلما وبهتانا، فضلا عما يسببه ذلك من إِحَنٍ عظيمة بين المفترِي الفاسق، والمفترَى عليه البريء الذي قد يكون من خيرة الناس .
ولما يترتب على عدم العمل بهذا الأصل من ضُرٍّ عظيم، جعلَ القرآنُ الافتراءَ على الأبرياء الغافلين أمرا مستبعدا حتى من الفاسق، حيث عبر بـ "إنْ" في قوله :" إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ"، كونُها تستعمل مع الشرط المشكوك في وقوعه، بما يعني أن اتهام الناس بهتانا لا يصدر إلا ممن توغَّلَ في الفسق . أما المؤمنُ الخلوقُ فيمنعه إيمانه، وتحول أخلاقُه بينه وبين الإفْحاشِ والمبالغةِ في الإِيحاش .
ولــ " إنْ" إلى جانب ذلك إشارةٌ لطيفةٌ،هي: أن الإنسان إذا اشتُهِر بالحزْم، وعُرِفَ عنه التثبُّتُ مما يُلْقى إليه من أخبار، فلن يجرُؤَ الفاسق على إخباره بشيء، بما يعني أن ساحته نادرا ما تُتَاحُ لافتراء الفساق على الأبرياء.
إن التبيُّنَ يُجنِّبُك وِزْرَ إصابةِ قومٍ بِضُرٍّ بهتانا لجهلك بالواقع وعدمِ إدراكك للحقيقة، أو إصابةِ قوم بفعل من أفعال الشدة والإضرار التي هي من أفعال الجهالة.
وتأمل: الإصابة بجهالة في الأصل لفرد واحد، إلا أن القرآن جعلها لقوم ،فقال:" أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا " لأن ضُرَّ اتهامِ بريء واحدٍ بهتانا يتجاوزُه إلى أسرتِه، وعائلته؛ مما يجعل ضُرَّها أعظم ، ووزرها أثقل .
فيصبح المرء ـ بسبب تساهله، وترك تطلُّبِ وجوه الحق، وعدم التبيُّن،وشيوع ذلك عنه بين الناس ـ من النادمين، أي: في عداد الذين اشتُهروا بالندم، وعرفوا به ، مبالغة في اتصافه بالندم، على التورُّطِ في ضُرِّ بريء، بل في ضُرِّ قوم أبرياء .
اللهم اعصمنا من الزلل ، واحفظنا وقومنا من تقوُّلِ الفاسقين .
وأدم على مصرَنا نعمة الأمن والاستقرار، واكفها يا ربّ كيد الحاقدين الفجّار .