الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

قال الشيخ لتلميذه: هلم إلي بني واقرأ علي ما تيسر من كتاب الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية وحيد عصره، وفريد نوعه، ودرة زمانه، ونادرة أقرانه.
ولبى التلميذ طلب شيخه وأمسك بالفتاوى وقرأ مستهلا: سئل ابن تيمية عن رجل صانع عمل عند معلم صنعة مدة سنين، وخرج من عنده قال له: حاسبني.. وهنا يشير الشيخ بيديه إلى تلميذه ويأمره أن يتوقف، ويقول له: يا ولدي إنني أقرأ الفتاوى منذ زمن كبير، ألا يوجد فيما قرأت قوله: سئل قدس الله روحه ورضي عنه؟ ألا توجد مكتوبة في هذه النسخة؟
قال التلميذ: بلى يا شيخي موجودة! فرد الشيخ متعجبًا: فلماذا أسقطتها من قراءتك؟ ألا تتعلم الأدب مع العلماء، وتعط كل ذي فضل فضله، ولكل ذي مقام مقامه؟ قل حينما تقرأ: سئل قدس الله روحه ورضي عنه، فأمثال هؤلاء العظماء يجب أن نوفيهم قدرهم ونحترم علمهم ونوقر شخوصهم.
قال التلميذ: ولكني شيخنا أكره تقديس الأشخاص، وأي محاولة تنزلهم منازل الرسل المعصومين أو الملائكة المطهرين، فهم أولا وأخيرًا بشر ككل البشر لا عصمة لديهم ولا قداسة.
قال الشيخ: لكنك يا ولدي جرفتنا إلى أمر محظور لم أقصده، ولم أرم إلى شيء منه فيما ذكرته! فقط نريد أن نتأدب مع علمائنا ونعظم مكانتهم، فالغربيون يا بني يرفعون علماءهم إلى السماء، ويجلونهم أبهى إجلال وأوفر تقدير.
قال التلميذ: يا شيخي الحبيب إن الغربيين يقدرون علماءهم ويصنعون لهم التماثيل، ويكبرون مكانتهم حقا، لكنهم لم ينزلوا أحدًا منهم منازل العصمة، والخروج عن حيز البشرية، ثم انظر يا شيخي إلى ما يفعله في شيوخهم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم صوفية، إنهم كادوا يؤلهونهم وينعتونهم بألفاظ لا تقال إلا في حق نبي مرسل، أو ملك مقرب، إنهم يصورونهم بأنهم أعلى رتبة من الأنبياء، وقد رأيت بعض جهلتهم وهو يحتج بقصة موسى والخضر، وأن العبد الصالح كان أعلم من النبي المرسل، وانظر يا شيخي لهذه الجماعات الدينية الأخرى، التي تردد كلام شيوخها وأقاويلهم ويقدمونها على أقوال نبيا العظيم صلوات الله وسلامه عليه وأحاديثه، وكأنها أوفى وأعلى وأبين وأثمن في القدر والميزان؟!
صمت الشيخ برهة وهو يتجه بنظره إلى الأرض، ويعبث بلحيته الطويلة الكثة، ثم يلتفت إلى تلميذه ويقول له: أتفق معك يا ولدي فيما تقول، ولكن كن حذرًا أن تفعل مثل فعلهم، فتكون أنت الآخر مغاليًا متشددًا، فلقد قال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ " يجب أن تفرق يابُني بين التقديس والتقدير، والتأليه والاحترام، فهناك من يحترمون شيوخهم بثناء وإطراء تظنه أنت تقديسًا يفوق قدر البشر، وأظن أن هذا يا ولدي من بعض غفلتك عن فضل العلماء ومكانتهم عند الله.! 
إذا كنت تعلم يا بني أن الانبياء معصومون، فيجب أن تعلم أن العلماء محفوظون، فالله سبحانه عصم أنبياءه وحفظ أولياءه من الوقوع في الكبائر وصانهم عن الرذائل، وهو من اللطف الإلهي وليس من العصمة يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكن نورا تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم) 
أذكر مرة يا بني ونحن نطلب العلم في الأزهر، أنني قرأت كتابًا على أحد شيوخنا الأفاضل، وكان مكتوبًا تحت اسم مؤلفه (قدس الله روحه ونور ضريحه) وأخذتني وقتها نفس الحماسة التي أخذتك، واستنكرت أن تطلق هذه اللفظة على واحد من البشر، مهما كان مكانه وقدره، فنظر إلي شيخي وقال لي: هدئ من روعك وقل لي: ما معنى كلمة قدس؟ وماذا تظن من ورائها؟ فقلت ساعتها: إنها ألفاظ تدل على القداسة، والقداسة لا تكون إلا لله، فضحك شيخي وقال لي: يا فتى لقد جاء في لسان العرب: "والتَقْدِيس التَّطْهِير والتَّبْريك، وتَقَدَّس أَي تطهَّر، وفي القرآن: ونحن نُسَبِّحُ بحمدك ونُقَدِّس لك؛ أَي نُطهِّر أَنفسنا لك، وكذلك نفعل بمن أَطاعك نُقَدِّسه أَي نطهِّره.." وأيقنت وقتها من حديث شيخي البصير، أن الجهل بالأمور دفعني لأنكر كثيرًا من الحق، وأنه كان لابد أن أعي هذا الفرق بين التكريم والتقدير، والتقديس الذي أتوهمه.
أما أنت يا فتاي النجيب، فإني أنصحك أن تحذر شططك في التفكير، أن يدفعك لتنكر فضل الأئمة العظام الذين كان لهم قدم صدق في حفظ الدين وخدمة الشريعة.. ولعلك تعذر هؤلاء المحبين لو أنك استعمت لأحدهم وهو يقول يومًا: يعيب الناس علينا أننا نذكر إمامنا ونجله بكل حفاوة وتقدير، ولكن وجب على الناس أن يعذروننا في ذلك، فقد رأينا صحابيًا يمشي على الأرض، ووجدنا تلك الصورة التي كنا نقرأ عنها في أخلاق السلف الصالح مجسدة تمشي على الأرض.
تلميذي الحبيب.. هل لي أن أهمس في أذنك بشيء لا يغيب عنك؟: إن كنت تريد يا بني أن تنكر حقًا، فلا تصوب سهامك إلى هؤلاء المحبين العاشقين، قبل أن تصوبها لأولئك التائهين المغفلين، الذين يلتفون حول عالم باع دينه بدنياه، فتراهم يهللون ويتصايحن ويتمسحون ويرفعونه لمراتب الطاهرين الأصفياء، وهو في حقيقته جيفة نتنة، تلهث وراء المتعة، وتخذل الحق، وتصفق للطغاة والمستبدين.! 
إلى هؤلاء يا ولدي وجه سهامك.

تم نسخ الرابط