تُرى كيفَ تكونُ حياتُنا دونَ الشعورِ بالأمانِ؟ كيفَ يمكنُ أنْ نكونَ إِنْ لمْ نعشْ طفولتَنا بشموليةِ عالَمِهِ مِن حيثِ الزّمانِ والمكانِ والعطاءِ. بل كيفَ تحمّلناْ مسؤوليةَ الكبارِ؟
إنَّها الذّاتُ العميقةُ. فهل تراها تُعانيَ اليومَ؟
مشاكلٌ بسيطةٌ أوعميقةٌ تجعلُنا نسألُ أنفسَنا كيفَ حالُ ذلكَ الطفلِ الذي في داخلِنا؟
ولا أخفيكم سراً، حينَ حضرتُ ندوةَ الأدبِ القضائي، التي أعدّتْها الدكتورةُ سهام الزعيري في نادي الزمالك، استوقفني ذاكَ الطفلُ القابعُ في روحِ الأديبِ والقاضي الأستاذُ بهاء المُرّي، الذي لا يريدُ أنْ يكبرَ، أو أنْ يشيخَ. جميعُنا مثلُهُ ننفضُ غبارَ الزّمنِ لنملأَ حياتَنا بالسّعادةِ الخالصةِ.
تُرى هلْ يصقلُ الرّجلُ الرّزينُ طفلَ الروحِ ليُشكّلَها ويربَطها بالواقعِ؟ أمْ أنّّ الطفلَ يصقلُ ملامحَهُ وسلوكَهُ؟
دعونا نُطلُّ على الطفلِ النائمِ في أعماقِ الكاتبِ بهاء المرّي، وعلى أسرارِ سيرتِهِ الذاتيةِ في كتابهِ قاضٍ مِن مصر.
إنّكَ إنْ قرأتَ كتابَهُ ستجدُ جواباً لهذا السؤالِ في الاستهلالِ. ففي الفقرةِ الأخيرةِ من الصفحةِ التاسعةِ . تراهُ يسكبُ مشاعرَ رحلةٍ سارَ دربَها ولمْ يَعشْها. رحلةِ طفلٍ مِن أواسطِ الناسِ نشأةً وتديناً ومعيشةً. إنّه صناعةُ أمٍّ صلبةٍ. وإرادةُ طفلٍ مسجونٍ في جمجمةِ كهلٍ لا يعرفُ الراحةَ. ففي الفقرةِ الأخيرةِ مِن الصفحةِ السادسة عشرة دلالةٌ على مَورثِ صلابتِها. طفلٌ لمْ يعشْ طفولتَهُ، صبيٌ شاخَ في صِباه، وشابٌّ شبَّ شيخاً، رجلٌ كشمعٍ يحترقُ مِن أجلِ أنْ يضيءَ الدّربَ. ثمّ ختمَها بقولهِ" "هكذا أرادت أنْ أكونَ وهكذا كانتْ صناعتُها لي". استخدمَ الكاتبُ هنا مفرداتٍ تصفُ أحوالَ أهوالِ المشاعرِ المكبوتةِ داخلَ هذهِ النفسِ البشريةِ.
ترى ماذا زرعتِ امرأةٌ صلبةٌ ذكوريةٌ بطفلٍ غضٍّ نشأَْ لا يعرفُ أن يفرّقَ بينَ الذكرِ والأنثى، العيبُ غيرُ مفهومٍ مِن وجهةِ نظرِها، و المجتمعِ كافة؟ لقد تهرّبَ الكاتبُ مِن مورثاتِ هذهِ الأفكارِ، فأوى إلى ملجأِ التفوّقِ ليستحقَّ هذا الاهتمامَ غيرَ المُبررِ. وأمّا عن إرثهِ مِن أبيهِ، فلقد ورثَ الكاتبُ سلوكَهُ وفكرَهُ بالرّغمِ مِن أنّه لم يرَهُ. جملةٌ قالَها في كتابِهِ" "رأيتُ أبي بأُذُني" فكانَ خيرَ معلّمٍ لهُ في الحياةِ لقد ورثَ عنهُ حكمةَ الفصلِ ولهذا نشأَ قاضياً بالفطرةِ قبل التعلّمِ.
طفلٌ يتيمٌ ووحيدٌ لوالدتِهِ بعدَ موتِ أخيهِ الرضيعِ، ترعرعَ في حضنِها. فهي لمْ تنجبْ بعدَها ذكراً غيرَهُ على أربعةِ بناتٍ.
كيف يتسنى لطفلٍ أنْ يواجهَ تحدياتِ الحياةِ حينَ تضربُهُ عواصفُها وقد نشأََ على خوفٍ مِن أعينٍ ضخمةٍ تراقبُهُ مُمسكةً القلمَ لتكتبَ كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ يفعلُها؟
كيفَ سيكونُ، وكيفُ ستؤولُ بهِ الأحوالُ؟
كيفَ لهذا الكاتبِ أنْ يحضنَ أجيالاً مُقبلةً على الكدِّ والعملِ تحقيقاً لتقدّمِ الوطنِ؟
ولكنَّ الحقيقةَ تجيبُنا بواقعِها:إنّّ منشأَ الإنسانِ الصّالحِ بذرةٌ لا يمكنُها النمو إلا في تربةٍ صالحةٍ. وأظنُّ أنّني إلى جانبِ الصوابِ إذ أقولُ: إنّه أُحْسنَ استثمارَهُ في كلِّ ما يستحقُهُ مِن حمايةٍ ورعايةٍ وتهذيبٍ، مع توفيرِ كلِّ الوسائلِ المادّيةِ والمعنويةِ الممكنةِ لتنشئتهِ، ولا ننسى سنّ القوانينَ الصارمةَ لهُ، والضامنةَ لحقوقِهِ كافةً ولأسرتِهِ الرّاعيةِ. ففي الصفحةِ الحادية والثمانين قال: في الجزء ِالمدوّنِ بعنوانِ "البيت الجديد" "فسلّمتُ أمري إلى اللهِ في كلِّ الممنوعاتِ".
وهذا دليلٌ قاطعٌ على الدورِ الكبيرِ الذي لعبتْهُ الأمُّ في سحقِ طفولتهِ دونََ قصدٍ، كانَ جلَّ اهتمامِها أنْ تنشئَ رجلاً يؤدي دورَهُ الاجتماعيَّ والإنسانيَّ في مستقبلِ عائلتِهِ ومجتمعِهِ. دلالةٌ يعترفُ بها الكاتبُ على أنّ جوهرَهُ كان بعيداً عن الطفلِ والطفولةِ التي لمْ ولن يمارسَها.
لستُ هنا لأتصيّدَ الهفواتِ، بل أنا هنا كمتلقيّةٍ أتتبعُ مراحلَ الحياةِ المميزةِ والأكثرِ أهميةً في بناءِ شخصيةِ هذا الكاتبِ لما قدّمَهُ على الصعيدِ الوطنيِّ والاجتماعيِّ.
الكاتبُ الطفلُ ما بينَ المنظورِ النفسيَّ والمعرفيِّ*
تُرى مَن أشبعَ خوفَ وقلقَ هذا الطفلِ؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تُراودني كمتلقيةٍ، بعدَ قراءةِ كمٍّ كبيرٍ مِن أجزاءِ هذه السيرةِ.
هلِ اختارَ الكاتبُ بهاء الصمتَ في ظلِّ رحلةِ القلقِ لأحداثٍ مزعجةٍ متراكمةٍ؟
هل شعرَ بالحرجِ يوماً لإضاعتِهِ وقتاً كان يجبُ أنْ يستثمرَهُ في طفولتِهِ؟
هل واجهَ الطفلُ حكاياتِ الجنِ والأشباحِ، بحكمةِ العقلِ الواعي، أم كانَ للخوفِ دورٌ في تشكيلِهِ؟
وهل ظلّ يخافُ مِن الأعينِ التي تراقبُهُ، وتسجلُّ عليهِ كلَّ ما يفعلُهُ؟
هل تجنّبَ المواقفَ الاجتماعيةَ وأقفلَ على نفسهِ وانخرطَ في ذاتهِ؟
في الواقعِ يخبرُنا الكتابُ بأنّ الشعورَ بالقلقِ ليسَ جديداً عليهِ. فحياةُ البشريةِ لم تمضِ خلالَ تاريخِها على وتيرةٍ واحدةٍ، بل لازمتْها هزاتٌ وأزماتٌ هددتِ الوجودَ، كذلكَ هو قد واجهَ في حياتهِ أزماتٍ يمكنُ أنْ تعصفَ بهِ، لكنّها كانتْ دائماً تعيدُ تشكيلَ مساراتِ حياتِهِ. إذْ عاشَ طفولتَهُ في رحلةِ عزاءٍ، كانَ يرافقُ الموتى إلى مثواهِمِ الأخيرِ. فهل ماتتْ فيهِ مشاعرُ الطفولةِ، أم اتخذها حكمة؟
لهذا تجدهُ قوياً يواجهُ خوفَهُ وقلقَهُ بصمودٍ وعزمٍ وإرادةٍ واعيةٍ، بصمتٍ وحنكةٍ. وهل بعدَ الموتِ شيءٌ؟. ففي الصفحةِ الثلاثين قال: "لستُ أدري لماذا في الأريافِ مَن يموتُ والدُهُ لابدّ أنْ يَشقَى"
أما عنِ الخوفِ مِن حكاياتِ الجداتِ عنْ شجرةِ الجميزِ، وأمّنا الغولةِ، وجنّيةِ الفرنِ، وأبي رجلٍ مسلوخةٍ فلم أشعرْ بوجودِ هذا الطفلِ الخائفِ بلْ كان رجلاً برغمِ صغرِ سنهِ لا يهابُ تلكَ الحكاياتِ.
متى أصبحَ الكاتبُ قادراً على الكتابةِ؟
الكتابةُ ليستْ مهارةً تأتي مِن فراغٍ، بل مرّتْ بمراحلَ تطويريةٍ متعددةٍ في سنٍ مبكرةٍ، مروراً بالكتابةِ البدائيةِ، وصولاً إلى الكتابةِ الأكاديميةِ المنهجيةِ. كانتْ والدتُهُ الداعمَ الرئيسيَّ بعدَ جدّهِ في الأسرةِ معَ توفيرِ الملبسِ اللائقِ والأدواتِ التكنولوجيةِ المتاحةِ في هذهِ المراحلِ. فلقدْ لاحظتْ بأنّ طفلَها أصبحَ متمكناً وقادراً على الكتابةِ والقراءةِ بشكلٍ أفضلَ. والجديرُ بالذكرِ أنّ هذا النطاقَ العمريَّ ليس قاعدةً ثابتةً، فالعديدُ مِن العواملِ يمكنُ أنْ تُسرّعَ أو تُبطّئَ هذه العمليةَ. بيدَ أنّها ألهمتْ قريحتَه في الصفحةِ الخامسة والثمانين حيثُ سارعتْ في مسيرتهِ الأدبيةِ بالاطلاعِ على مكتبةِ أبيهِ وأدهشَهُ أسلوبُهُ. وكانت هذه مِن أحدِ أهمِّ العواملِ التي أثّرتْ على قدرتِهِ في الكتابةِ، ولمْ تكتفِ بل عملتْ على توجيههِ إلى الحياةِ العمليةِ والانخراطِ فيها وكأنّها أرادتْ أنْ تعيدَ مجدَ زوجٍ رحلَ، اسمُهُ خيرت المرّي.
ومِن ثمّ تابعَ صقلَ ذاتهِ الأدبيةِ بقراءةِ كتبِ الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، ونجيب محفوظ وغيرِها، حتى أصبحَ ضليعاً باللغة. وقد بدأَ حسُّ الظهورِ بالإلقاءِ في إذاعةِ المدرسةِ في المرحلتين الإعداديةِ والثانويةِ وزادتهُ الإذاعةُ المدرسيةُ نهماً بحبِّ القراءةِ والأدبِ.
ولا أخفيكم سرّاً أنّي بحثتُ كثيراً عن ذاكَ الطفلِ التائهِ في أعماقِ الكاتبِ فلمْ أجدْهُ
فهو لم يكبرْ ولم يحلمْ باللعبِ ولا بالمراهقةِ. وجدَ نفسَهُ فجأةً أباً، وجداً لأبناءٍ وأحفادٍ كثيرة.