الإثنين 01 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

ماذا على الله لو أغنى الناس كلَّهم، أيُنْقِص ذلك من خزائنه شيئا ؟ وماذا لو استيقظ كلٌّ منا ليجد في بيته مغارة علي بابا ؟ أفلا يكون ذلك أجلب للراحة والسكينة والسعادة؟

وفي الجواب :

خلق الله الإنسانَ ويعلم من طبعه أنه إذا استغنى طغى، وتعاظم، وتجبر، لأن نفسَه العليلةَ توهمُه بأنه لم يعد محتاجا لأحد، ثم يتجذر هذا الوهم في نفسه وينموا وتلتف أغصانُه لتحجبَ عنه شمسَ الحقيقة، فيطغى على الناس حتى يصيرَ الطغيان له خلقا، فيمشي مزهوا بنفسه بين تابعين ومنتفعين وأجراء ماتت فيهم زواجرُ البغي من دين أوعُرْفٍ، أوعقل .

هذا طبع الناس إلا من كان له من دينِه، أوخُلُقِه، أو أصله، أوقومه وازعٌ، وواعظ ، وهم قليل .

ثم إن هذا الخُلقَ البغيض يكون أضعافا لو صادف الغِنَى نفسا خبيثةَ الأصلِ، سيئةَ المنبت، فإن صاحبَها يُصبحُ لا يخشى من الناس بأسا، ولا يقيم لأحد وزنا .

وقد أكد القرآن ذلك عندما قال :"كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ.أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ" العلق/6،7أي : إنه ليطغى لرؤيتِهِ نفسَه مستغنياً.

وفي ديوان الحماسة: 

            إذَا أخْصَبْتُمُ كُنْتُمْ عَدُوًّا  *  وَإنْ أجْدَبْتُمُ كُنْتُمْ عِيَالاَ 

فالخصبُ والنماءُ والسعةُ لا تُنبت بداخلهم إلا البطَرَ، ومعاجلة الناس بالشر، بدل التكرُّم، والتحلُّم، أما إن ضاق الحال، استجاروا كأنهم عيال يفتقرون لمن ينفق عليهم، ويدفع عنهم .

والفقر ـ أيضا ـ قد يكون سببا للبغي، إلا أن ردعَه ميسور لأنه يكون مشوبا بالخوف، كبغي الجائع الفقير، يردعُه امتلاء بطنه. 

 وهذه التساؤلات يطرحها القرآن في صورةِ فَرَضِيَّةٍ يجيب عليها ببيان ما يترتب على تحققها فيقول: " وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ "الشورى/27

 فبسْطُ اللهِ الرزقَ لكل العباد ميسور، ولن يُنْقص خزائن السماوات والأرض شيئا، لكنه لو حدث لبغَى بعضُهم على بعض ، لِتَوفُّرِ أسباب البغي، فيقاومُ المبغِيُّ عليه لأنه واجد أسباب المقاومة في غناه، وهكذا، فيختل بهذا التدافع نظام الحياة، فيلزم أن يكون بسط الرزق للناس كلِّهم مضرةٌ ومفسدةٌ .

 أضف إلى ذلك أنه لو بُسِط الرزقُ للناس كافة لتعطلت المصالح وتوقفت الأعمال، لأن الإنسان بطبعه متكبر، فإذا صادفه الغنى وأخصبت حالُه، سعى بكل الطرق في تحقيق مشتَهَايتِه، فضلا عن امتناعه أن يكون في خدمة غيرِه .

أما إذا أجدبت حالُه فإنه يتواضع، ويسعى في إنجاز ما يبرع فيه ليكسب زاده، ويحقق ضرورياته، طامحا إلى تحقيق الكماليات .

 وفي المقابل لو بُسط الرزق لبعض العباد كما هو مشاهد فإنه لا يُفضي إلى تلك النتائج؛ لأنه قد يصادف نفوسا سخية لها من الدين والطبع آمرٌ بالجود والإحسان؛ فيسترون عوْرات المجتمع، ويسدون ثغراته، منفقين بسخاء فيما يعود على الناس بالنفع.

وقد يصادف نفوسا لها من الدين أو العقل أو الأصل وازع يمنعها من البغي والطغيان.

وقد يصادف ـ نادرا ـ نفسا خبيثة، فلا يُفضِي غناها ـ وهي آحاد ـ إلى شيوع الإفساد، واختلال الأحوال؛ إذ يمكن درءُ إفسادها ومقاومتُه بالقانون . 

وهذا التفضيل للبعض في الرزق قسمةٌ من الحق ـ سبحانه ـ منوطةٌ بحكمة، وصادرةٌ عن تدبيرٍ، وكمال علم بما يُصْلِحُ أحوال الناس .

والمؤمن الحق يجد غناهُ في قلبه، وسعادَتَه في الالتجاء لربِّه، والانشغالِ بما يُكسبه الرضا والقبول، مجتهدا في عمله، سائلا الله من فضله الذي يسع الإِنعام على الجميع.

لذا اقتضت مشيئة الله الجارية على وفقِ علمه وحكمته، أن ينزل الرزق بقَدَرٍ ما يشاء؛ لأنه الخبير بأحوال العباد، البصير بما تؤول إليه، فيُغْنى ويُفقِر، ويُعطِي ويمنع، ويَبسُط ويَقبِض، فلا يغني العباد كلَّهم .

" وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ" الشورى/27

 اللهم اجعل غنانا في قلوبنا، وارزقنا القناعة والرضا بما قسمت.

 واحفظ اللهم مصرنا من كل مكروه وسوء، ووفق يارب قادتها لما فيه خيرها ونماؤها.

تم نسخ الرابط