الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

هل يمكن أن يحقق القلم لصاحبه زعامة الأمة؟
إن ذلك واقع في الأمم التي تقدر قيمة الثقافة والعلم، فحينما يكون للزعماء عروشهم التي يتباهون بها، فإنهم يشعرون بالغصة من أصحاب الأقلام الذين جعلتهم الأمة المثقفة غريما لهم، بل ربما يكونون أكثر قيمة وابعد نفوذا لأنهم يمتلكون الفكر الذي يوجه العقول ويرشد الأفهام.
قد يجبر أصحاب السلطان غيرهم بالقوة إلى مايريدون حتى ولو بدون قناعة، لكن الفرق هائل حينما يسوقهم الكتاب إلى ما يريدونه وهم قانعون راضون بل متحمسون.
وهذا حال المفكرين وأصحاب الأقلام، وأهميتهم عن أهل السلطان، الذين أدركوا أنهم كي ينجحوا في إدارة البلدان، لابد أن يتخذوا حولهم كتيبة من الكتاب ويحيطون أنفسهم بدفعة من المفكرين، يقنعون الناس بسياساتهم وإجراءتهم، لأنهم يدركون أن المفكر والكاتب أكثر قبولا وأشد قربا إلى وجدان الجماهير.
وأنا هنا اليوم أتناول الحديث عن الأستاذ العقاد بلون مغاير مختلف، فقد عهدنا أن يتحدث المتحدثون عن العقاد الكاتب والمفكر والأديب والشاعر، وأرى أننا هنا لم ننزل الرجل منزلته الحقيقية، فأنا دوما أؤكد أن العقاد حينما نتحدث عنه يجب أن يختلف الحديث ويتخطى من نطاق الكاتب والمفكر إلى مكانة الزعيم والمنظّر والقائد، نعم كان العقاد بعقله الجبار وقلمه المكين يقود فكر الأمة وعقليتها ويوجه سياستها، وكانت المقالة الواحدة للعقاد، يمكن أن تحدث كثيرا من التغيرات والانقلابات في الحياة السياسية للأحزاب والحكومات، بل كانت الجماهير بذاتها تطلع إلى رأي العقاد في كل كبيرة وصغيرة، حتى يهتدوا برأيه إلى الحق والصواب، ويتبنون رأيه ويأخذون به ويقتنعون بتحليلاته ومراميه.
قد يأخذ البعض على العقاد شيء من كبره وغروره، وتلك صفة مذمومة في الإنسان، لكن الحقيقة أن العقاد ما كان يفعل ذلك مع كل الناس، وإنما فقط مع الكبراء وذوي الجاه، أما تلامذته والمقربين منه فكان رؤوفا ودودا، يفعل ذلك مع الكبراء لأنه يرى نفسه كبيرا، ولا يقل عنهم مكانة وقيمة، إن لم يكن أبعد وأعمق أثرًا وتأثيرًا.
بل كان هذا الأمر يدركه عقلاء الأمة من زعمائها الكبار، الذين كانوا يعرفون معنى العقاد وأهميته في محيطهم الحزبي والسياسي، إذ يروي الأستاذ مصطفى أمين "غير مرة من ذكريات طفولته وصباه في أحاديث متلفزة، مما يعكس قدر العقاد عند زعيم الأمة سعد زغلول باشا، ويشير إلى أن انتفاع الزعيم وحزب الوفد بالعقاد كاتباً ومفكراً ومستشاراً وصاحب قلم مؤثر في الرأي العام ولذلك كان سعد ينعته بالكاتب الجبار أو صاحب القلم الجبار، لم يكن يقل عن انتفاع العقاد بهذه العلاقة، أن الصبي الصغير مصطفى أمين ( المولود سنة ١٩١٤م) لاحظ وهو في بيت خال والدته، الزعيم سعد زغلول (المتوفى سنة ۱۹۲۷)، وكان هو وتوأمه على أمين يناديانه (يا جدي)، أن مائدة الطعام التي دعا إليها سعد عدداً من كبار القوم، ومنهم العقاد، تم ترتيب أماكن الجلوس فيها بحيث جاء مقعد العقاد بجوار الزعيم مباشرة، فقال الصغير مصطفى لجده: يا جدي، هناك خطأ في البروتوكول هنا، فسأله الزعيم: لماذا يا بني ؟، فقال: لأن البروتوكول يقتضى أن يكون إلى جوارك مباشرة فلان باشا لأنه صاحب «معالي»، ثم فلان باشا، وهو أيضاً صاحب «معالى»، ثم فلان بك، وهو صاحب «عزة»، ثم أصحاب السعادة»، وهكذا، ثم يكون الأخير في الترتيب على المائدة هو الأستاذ العقاد، لأنه عباس (أفندي) محمود العقاد، فأجابه الباشا قائلاً: ومن قال لك إن العقاد (أفندي)؟ ، فقال الصغير : أليس هو بالفعل (أفندي)؟ هل حصل على درجة أعلى وأنا لا أعرف؟ فأجابه سعد قائلاً: إن العقاد يا بني كاتب وصحفى، ومهنة الكتابة والصحافة هي صاحبة جلالة)، ولذلك فمن الطبيعي أن يجلس (صاحب الجلالة) في الترتيب قبل (أصحاب المعالي) و (أصحاب العزة)!"
ولعل هذا التقدير من سعد أن يملأ نفس العقاد حبا له فالنفس أسيرة لمن أحسن إليها، وقد يمنعه هذا الحب وهذا التقدير من مخالفته في شيء، لكن العقاد كان من منطلق شعوره بذاته وقيمته، لم يمنعه حبه لسعد أن يخالفه في آرائه أو قراراته، وتبدى هذا في موقف سعد من تأييده لقرار هيئة كبار العلماء بطرد الشيخ علي عبد الرازق من الهيئة بسبب كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي أثار ضجة هائلة في مصر، خالف العقاد رأي الزعيم ورأي أن الشيخ علي من حقه أن يعبر عن رأيه، ومن حق غيره أن يردوا عليه كذلك بالرأي، أما العسف والإقصاء فلا.
إنها الزعامة إذن والشعور بقوتها في النفس، هي التي جعلت العقاد يتصرف على أنه زعيم ويكتب على أنه زعيم، ويرد على أنه زعيم.
يذكر الأستاذ عبد الحميد الكاتب في مقال له بالهلال عدد يونيو 1992: "أن الملك فاروق، في سنوات حكمه الأولى على ما يبدو، وكان شاباً صغيراً قليل الخبرة بالطبع، زار العقاد زيارة غير معلنة في بيته بمصر الجديدة بصحبة علي ماهر رئيس الوزراء لكي يستفيد من نصائح العقاد وخبراته، وبالرغم مما كان العقاد قاله عن أبيه من قبل ودخل السجن بسببه !"
يقول الكاتب في مقاله: "وعندما ذهب علي باشا ماهر بالملك فاروق لزيارة العقاد في شقته بمصر الجديدة، كان العقاد يقول ولا يتحرج من القول: إنني لا أستفيد شيئاً من هذه الزيارة، ولكن الملك هو الذي يستفيد، فعندما يكتب تاريخه سيذكر الذين يمدحونـه أنـه كـان يريد أن يتعلم وينفتح عقله، فذهب إلى زيارة العقاد في بيته"
لعمري أي عقل هذا وأي إباء؟ 
ففي الوقت الذي ينسى بعض الكتاب أنفسهم لتكريم الملوك لهم وتشريفهم بزيارتهم والإنعام عليهم بالحديث والمشورة، يأتي العقاد الكبير ليعلن بكل صراحة: أن هذه الزيارة ليست تشريفًا له وإنما تشريفًا للملك، وذلك لإيمانه ويقينه أن الملك لم يزر كاتبًا بقدر ما زار زعيما كبيرًا أعمق أثرًا  وقيمة في الأمة والجماهير.
رحم الله الزعيم العقاد.

تم نسخ الرابط