الحج رحلةٌ إيمانية تهوِي إليها أفئدة المؤمنين، وتهفو لنفحاتها نفوس المشتاقين استجابةً لدعاء خليل الله:" رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ "إبراهيم/37
ومن جمال العبادات المفروضة في الإسلام أنها ترمي في جملتها إلى تتْمِيم مكارم الأخلاق عن طريق رياضة النفس بالخلال الملكية.
فالصوم يهدُف إلى تقوى النفوس بحرمانها من الطعام والشراب وقربان النساء نهار رمضان." يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ" البقرة /183
والزكاة تطهير للنفس من أدْران الشح والبخل بتخصيص جزء من المال لغير القادرين ." خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا"التوبة/103
والصلاة زاجرة عن الفحشاء والمنكر والبغي، بتحديد أوقات معينة لا يسوغ التخلف عنها، يقف فيها المؤمن طاهرا مُحْرِما بين يدي ربه." وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ"العنكبوت /45
وكذلك الحج: ترويض للنفس على الانتهاء عن الفسوق والعصيان، والامتناع عن الرفث الذي لم يقْوَ الصائمون على تجنبه ليل رمضان؛ فأُخبِروا بحله كيلا يختانون أنفسهم .
يقول الحق:" ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ "البقرة/197
وقد عرَّفت الآيةُ الحجَّ بأنه:" أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ "، فجُعِلَ الحجُّ الذي هو حدثٌ وشعائرُ تُؤدَّى: نفسَ الزمان . فالحَجُّ: مبتدأ ، خبره: أشهرٌ، والمبتدأ والخبرُ لا بد أَنْ يَصْدُقَا على ذاتٍ واحدة، وهذا ما لم يتحقق هنا؛ كون الحَجِّ أفعالا ومناسك، والأشهرِ: زمانا؛ فهما غَيْران .
لذا قال المفسرون والفقهاء ـ لتصحيح المعنى ـ بأن في الآية حذفا تقديره: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ معلومات، أو:الحجُّ حجُّ أشهر معلومات .
وهي تقديرات تحيل النص إلى بئر معطلة لا يُسْتَقى منها، مع كونها نابعة بالماء، صالحةً للانتفاع .
ثم جاء تعريف الفقهاء مجسدا لهذا التجفيف، وذلك التعطيل فقالوا:" الحج: أعمال مخصوصة، تُؤدَّي في زمان مخصوص، ومكان مخصوص على وجه مخصوص" الفقه على المذاهب الأربعة/كتاب الحج
وفرق شاسع بين تعريف القرآن، وتعريف الفقهاء للحج؛ فهم جعلوه أفعالا مخصوصة، وجعله القرآن نفسَ الزمن، ليظل النص القرآني بهذه الصياغة نبعا يفيض بالمعانى الجليلة.
فالقرآن بجعله الحج أشهرا، لم يُعْنَ بما اختلفَ الفقهاء فيه من كون الأشهر ثلاثة، أو شهرين وجزءا من الشهر الثالث، بل اكتفى بوصفه للأشهر بأنها: معلومات، يعرفُها العربُ؛ كونُها من موروثات إبراهيم عليه السلام؛ فتكون العناية بحرمة الزمان، حرمة هذه الأشهر المعلومات.
فكان تعبير القرآن موحيا بأن لزمن الحج قُدُسُيَّةً وحرمةً، كقدسية وحرمة الطواف والوقوف بعرفة،وكأن الزمان أصبح من شعائر الحج المعظمة.
كما أن تعريف الحج بأنه أشهرٌ، يوحي بشيوع تلك الحرمة وذلك التعظيم في أشهر الحج كلِّها، أيامِها ولياليها، لأنه لا يُعقل لمن فرض فيهن الحج على نفسه، وأحرم به قبل الوقوف بعرفة بيوم،أو يومين، أو أكثر، أن يكون مُجَادلا طويل اللسان، فاسقا، فإذا أحرم انتهى عن الفسوق والجدال، ليعود بعد أداء مناسك الحج إلى ما كان عليه قبلها.لا يعقل هذا.
بل الحج أشهرٌ هي عِدَّتُه، ينبغي أن تحترم؛ حتى تنضجَ ثمرة احترامها وتعظيمِها في النفس إصلاحا وتهذيبا، فكما أن الغرض من الصوم لا يتحقق إلا بإكمال العدة، كذلك ما يرمي إليه الحجُّ لا يتحقق إلا بالانتهاء عما نهى الله عنه أشهرَ الحج .
أيضا تعريف الحج بأنه زمن يرمي إلى شيوع حرمة الزمان خارج حدود الفرد وخارج حدود الحرم؛ لتشملَ كلَّ فرد، وكل مكان، فلا يعقل أن تُحترم حرمة أشهر الحج في مكة وتنتهك في مكان آخر، أو قُطْرٍ آخر، بل تشيع تلك الحرمةُ لتتجاوز حدود الحاج إلى كل مسلم، وحدود الحرم ليحترم ويُعَظَّم في كل مكان.
وليس أدل على ذلك من تحريم الله لشهر ذي القَعْدة، وشهر ذي الحِجَّة، وشهر المحرم؛ ليعُم الأمن والسلام، وليأمن الحجاج على أنفسهم ذهابا وإيابا، وليجتمع لزمن الحج حرمتان: حرمةٌ لكونه زمنا لآداء تلك الشعائر المعظمة، وحرمةٌ بتحريم الله لتلك الأشهر.
ويؤيد هذا الفَهْمَ قولُ الحق:" فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ " فلم يقل: في مكة، أو خلال أفعال الحج، بل قال:" فِي ٱلۡحَجِّۗ" الذي عرَّفه في صدر الآية بأنه أشهر، فكأنه قال : لا رفث ولا في فسوق ولا جدال في تلك الأشهر.
وبذلك يكون حظ الحاج ـ وقد انتهى عن ذلك ـ أن تجتمع له مع طهارته: طهارةُ الزمان وطهارةُ المكان، وغيرُ الحاج يكون حظه بالانتهاء عن ذلك: طهارته وطهارة الزمان، وان لم يكتب له أن يعيش طهارة المكان.
فلا تحرموا في زمن الحج المحرم أنفسكم من نفحاته ،وأكثروا فيه من الطاعات والدعاء.
رزقنا الله وإياكم حج بيته المعظم، وحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء ، ووفق قادتها لما فيه خيرها ونماؤها.