ظاهرة "الحسد" من الأمور الملفتة للأنظار، والتي صارت مثار اهتمام الكثير من المواطنين، ومادة ثرية للحوار والنقاش بين العلماء والمفكرين.. وهذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، ولا بأمر جديد أو غريب علي المجتمع البشري، فمنذ بدأ الخليقة ووتجذرها في نفوس بني البشر لا يخفي علي أحد؛ فهناك من ينظر بعين حاسدة لما رزقه الله لغيره، أو وهبه الله لأحد خلقه، مستكثرا نعمة الله علي أحد عباده، ناقما علي حاله غير راض بما قسمه الله له، وهذه النفوس لا تترك شاردة ولا واردة في حياة غيرهم إلا وحشرت أنفها فيه، ودست أعينها في أدق تفاصيله، وهذه رزية من الرزايا، وبلية من البلايا التي ابتليت بها مجتمعاتنا، ولا ندري متي وكيف الخلاص والفكاك منها.
وعقب تحول الجمهور للتواجد المكثف عبر الواقع الافتراضي، وفي خضم انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وسهولة استخدام تطبيقاتها التقنية المتنوعة، وتطور هذه التطبيقات _يوما بعد يوم_ أصبح من اليسير أن يقوم الجمهور بالمشاركة في إنتاج المحتوي وطرحه علي عدد غفير من الجماهير في أشكال وقوالب وأساليب فنية تعتمد علي المحتوي المكتوب أو الصورة أو الفيديو، أو الدمج بين هذه الوسائط في نقلة اتصالية نوعية لم يشهد لها العالم مثيلا في تطور وسائل الاتصال بين بني البشر عبر الأزمنة والقرون، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ؛ بل أصبح من السهولة بمكان أن يقوم المواطن الذي يتواجد علي شبكة الإنترنت، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بالبث المباشر لأي حدث أو موقف ارتبط بحياته، أو ارتبط بشئون غيره، أو كان له صلة بالأماكن التي يتواجد في نطاقها، في طفرة مذهلة ونقلة نوعية أتاحت للجمهور متابعة الأحداث لحظة وقوعها، وجعلت الأعين شاهدة عيان علي حياة الأفراد، ومنجزاتهم، وأفراحهم، وأتراحهم.
وعلي الرغم من أهمية هذه التطبيقات الرقمية _ التي توغلت في حياتنا_ في متابعة الأحداث الجارية والدائرة، والقضايا المهمة والحائرة، ونشر حالة من التواصل والتفاعل الإيجابي بين أفراد الجمهور؛ إلا إن البعض أصابته هيستريا النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ فلم يترك أمرا يخص شئون حياته إلا وكان له من النشر علي مواقع التواصل نصيب.. ولقد وصل الأمر ببعض مستخدمي مواقع التواصل أن ينشر كل خطوة يخطوها في حياته عبر هذه المواقع؛ فهذا في أحد المطاعم المشهورة يجلس بجوار أسرته أو أصدقائه يتناول ألذ الأطعمة والأشربة، وذاك في نزهة أو فسحة أسبوعية في أحد المتنزهات أو الشواطيء أو الملاهي أو الأماكن المشهورة، وآخر يعيش فرحا مسرورا بزواج ابنته أو نجاح ابنه، أو اقتناء سيارة جديدة، ومنهم من أبي إلا أن ينشر صورته وهو يشتري بعض الملابس الجديدة في أحمد الماركات أو المحلات الشهيرة، وآخر ينشر الأفراح والليالي الملاح التي أقامها فرحا بقدوم مولوده الجديد، أو الاحتفال بعيد زواجه المجيد، أو الفرحة العارمة بالحصول علي وظيفة مرموقة آملا الغني والعيش الرغيد. وقد وصل الأمر إلي الحياة الشخصية والعائلية فقام البعض بنشر أدق تفاصيل حياته، وكيف يعيش بين جدران بيته في ظاهرة ملفتة للنظر لم نري لها مثيلا في العهود السابقة، ولا في أيامنا الماضية الرائقة التي حرصت فيها الأسرة أشد الحرص علي الحفاظ علي خصوصيتها، وإخفاء أمور حياتها، ودقائق أحوالها، وعلي حرمة بيوتها، وعدم طرحها علي الملأ من باب المثل القائل" داري علي شمعتك ...."، وحفاظا علي القيم الأسرية، والعلاقات الوطيدة بين أفرادها، وإحاطتها بسياج من السرية والكتمان لتنعم الأسرة بحياة هادئة بعيدا عن ظاهرة الحسد، واحترازا من منغصات المباهاة والافتخار التي ألحقت الضرر بالأسرة، وأودت بحياة بعض أفرادها جراء نشرها أمام أعين الناظرين.
وفي ظل سعي الأفراد لنشر أدق تفاصيل حياتهم، وما حباهم الله من فضل، وحرمان البعض من هذه النعم التي أنعم الله بها علي بعض خلقه، وطرحها علي عموم الناس ما كان من بعض أصحاب النفوس الضعيفة إلا حسد هؤلاء الناس علي هذه النعم؛ لتنقلب حياتهم إلي جحيم، وتتحول إلي كابوس مزعج لا تستطيع الأسرة الخلاص منه بعدما تغافلت الحقيقة الكاشفة التي أثبتتها الأيام، والقاعدة الذهبية التي أكدت فعاليتها، والتي تطالب الأفراد بالاستعانة علي قضاء حوائجهم بالكتمان ؛ فصاحب كل ذي نعمة محسود، ونشرها علي مرأي ومسمع من الناس_حتما_ بالخير لن يعود.
وتتشابك هذه الظاهرة مع انشغال الآباء والأمهات بالتعرض المكثف لمواقع التواصل الاجتماعي، وترك أولادهم _ومن يعولون_ فريسة لحمي الإنترنت التي أصابت الجميع؛ ليغيب الحوار البناء بين أفراد الأسرة، في ظل عدم القدرة علي بناء جسور من الثقة بين أركانها، وعدم الاستماع الكافي لمشاكلهم وقضاياهم، والتسلط في اتخاذ القرارات الأسرية بأشكالها وألوانها، مع عدم ترك مساحة كافية لهم لاتخاذ بعض القرارات المتعلقة بمستقبلهم، والحد من مشاركتهم في صنع القرارات داخل الأسرة وبين جدرانها لتكون النتيجة حالة من العزلة النفسية، والانتكاسة التعليمية، والمثالب الأخلاقية التي أدت إلي انتشار الأمراض النفسية والبدنية، كالجنوح للانطواء، والخمول، وتشتت الذهن، والعصبية، وفقدان الدافع للإنجاز وتحقيق الذات، وقد تحول الأمر _ في أحايين كثيرة_إلي سلوكيات سلبية مدمرة، أبرزها: ",إدمان الإنترنت"، و"الهروب من الواقع المعيش"، واللجوء للواقع الافتراضي الذي يبث لدي مستخدميه روح التشاؤم والإحباط، ويؤدي إلي عزلهم عن أسرهم ومجتمعاتهم، وعدم القدرة علي تحقيق ذواتهم، والظفر بآمالهم وطموحاتهم.
وفي معظم هذه الحالات_ التي كان لها من الانتشار الواسع نصيب_ تقوم الأسرة بتفسير هذا الواقع المظلم كنتيجة ل"ظاهرة الحسد" المنتشرة بكثرة في مجتمعاتنا، دون تمعن ودراسة حقيقية لأسباب هذه الانتكاسة من النواحي الاجتماعية والطبية والنفسية، ومحاولة التغلب علي آثارها وتداعياتها؛ لتضع أفراد الأسرة في مأزق كبير، يتحول فيه أصحاب التفوق والنبوغ، وأرباب السلوك القويم، وأهل الخلق الحسن إلي شخصيات مغايرة تملكتها الأمراض النفسية والبدنية، وجعلتها طاقات سلبية مهدرة ومعطلة، تثير الأسي والحزن والشفقة، وما كان لها أن تنجرف لهذا التيار إذا تتبعت الأسرة أسبابها، وتداركت أمورها قبل أن يستفحل خطرها، وقبل أن تأكل الأخضر واليابس، وقبل أن نعض أصابع الندم دون جدوي.
وللخروج من هذه الأزمة التي طالت الكثير من البيوتات، وقلبت حالها رأسا علي عقب، وبدلت حالها لأسوأ حال فلابد أن يدرك كل منا أن كل ما ينشره عبر مواقع التواصل ترصده آلاف الأعين التي لا يدري أحدنا ما تضمره نفوس أصحابها من حقد أو حسد، أو استكثار لهذه النعمة علي من وهبه الله إياها؛ فليقتصد كل منا في نشر أمور حياته عبر مواقع التواصل، وليتخفف منها قدر استطاعته مراعيا أحوال غير ممن حرمهم الله هذه النعم، متخفيا عن أعين أصحاب الحقد والحسد، نائيا بنفسه وأهله وقرابته عن ويلاتها التي حولت البيوت إلي بركان من الحزن والغم والأسي والمرض، مع التوجه إلي الله سبحانه تعالي، والتحصن بكتابه، والمداومة علي الأذكار وقراءة القرآن ليكون لنا من الخير نصيب، وتبتعد عنه أعين الخلق دون أن تلحق به الأذي والهلكة أو تصيب.
وليدرك كل منا أن مواقع التواصل الاجتماعي قد تستخدم كوسيلة للإخبار والإعلان عن بعض المناسبات الاجتماعية، أو التسويق لسلعة أو فكرة معينة، أوالترويج لنشاط محدد يستفيد منه المرء في تطوير حياته، وقد يستخدمها البعض في الحض علي أمور الخير، أو نشر القيم المجتمعية والأخلاقيات الدينية، أو إسداء النصائح الهادفة؛ ليضع مواقع التواصل في مسارها الصحيح، وتكون ذخرا لصاحبها في الدنيا، ونجاة له في الآخرة.
وليعلم كل منا أن العين حق، وأن هناك أعين تحب الخير، وأخري تضمر السوء والضير..فلا نجعل هذه المواقع سببا في تدمير حياتنا، وإلحاق الأذي والسوء بفلذات أكبادنا، ومشاعل البسمة والسعادة في أركان حياتنا، ولنحرص علي الاستخدام الآمن لمواقع التواصل الاجتماعي، وعدم الإفراط في التفاعل معها لكي ننتفع بمزايها، ونتجنب أخطارها التي انتشرت كانتشار النار في الهشيم، وحولت إلي الحياة هلاك وجحيم .