لما قال الحق سبحانه:" مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ" سورة البقرة:245
جاء أبو الدحداح ـ رضي الله عنه ـ فقال يا رسول الله:" أوَ أنّ الله يريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح، قال:أرني يدك، فناوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده فقال: " فإني أقرضت الله حائطاً فيه ستمائة نخلة.
فقال ـ صلى الله عليه سلم :" كم من عِذْقٍ رَدَاح، ودارٍ فَسَاح في الجنة لأبي الدحداح" والعذق : الغصن العظيم للنخلة يتدلى بالرطب .
والقرض في الآية ليس بمعناه المتعارف، بل يعني: بذْلُ مالٍ رجاءَ الثواب من الله سبحانه، إلا أن المُقْتَرِضَ لمَّا كان ملزما برد القرض؛ كان في التعبير به تأكيدٌ على تحقيق حصول الثواب على البذل والإنفاق.
ويُفْهَمُ من وصف القرض بـ "حسنًا" أن الحق ـ سبحانه ـ لا يرضَى به إلاَّ إذا كان خالصا له مُبرَّأً عن شوائب الرياء والأذى.
والآية بصياغتها الاستفهامية تعكس كمال الأدب الرباني في التحضيض على الإنفاق، والمساهمة في أبواب الخير التي تعود بالنفع على المجتمع.
وكأنَّ المستفهِم لا يدري مَن هو أهل لهذا الخير وتلك المنزلة، فيسأل مفترضا وجود من هو جدير بها ،فيتبارى المنفقون، ويقول كل واحد منهم : أنا يا الله ، أنا يا الله من يقرضك، وهو ما فعله أبو الدحداح رضي الله .
وإقْراضُ الحق ـ سبحانه ـ إذا كان بهذه الصفة، أي: حسنا، فإن الله يضاعفه أضعافا كثيرة لا يعلمها إلا هوَ، تتفاوت وتترتب على أحوال المنفقين، وأحوال المنفَقِ عليهم، ووقت الإنفاق، ومكانِه، ونوع المال المنفَق.
وهي مضاعفةٌ تعْقُبُ الٌإقراض مباشرة بدليل ترتُّبِ فعل المضاعفة على فعل الإقراض بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب .
ثم تشير الآية من طرف خفي إلى وعد الله للمنفق بالتوسعة عليه، وتوعُّد الشحيح بالتقتير والتضييق، فهوـ سبحانه ـ القابض وهو الباسط .
والحق ـ سبحانه ـ حين يأمر ـ في موضع آخرـ ويحض على المسارعة إلى مغفرته وإلى جنات عرضُها السماوات والأرض أعدها للمتقين من عباده، فإنه يُجْرِي على المتقين صفاتِ مدح وثناء وتنويه، يجعل منها: الإنفاقَ في السراء والضراء، وذلك في قوله:" وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ.ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ"سورة:آل عمران /133،134
وتخصيص السراء والضراء لأنهما حالان يُلْهيان الإنسان عن التفكير في الغير، فالسرّاء: حال الاتّصاف بالفرح؛ ففيها ملْهاة عن الفكرة في شأن غيرهم من الفقراء ،والضراء: المصائب المحزنة، وفيها أيضا ملهاة عن التفكر في شأن الغير؛ لما يُقارنها في الغالب من ضيقٍ، وقلَّةِ مَوْجِدَة.
فالثناء على المتقين بملازمة الإنفاق في هذين الحالين يدل على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال الَّذي هو عزيز على النَّفس، قد صارت لهم خُلقاً وطبعا وسجية لا يحجبهم عنه حاجب.
كما يحمَدُ الحق ـ سبحانه ـ من المصلين،أنهم جعلوا في أموالهمم حقا معلوما للسائل والمحروم قائلا :" ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ . وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ .لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ"سورة المعارج /23 :25
فالجزء الذي يُخرجونه من أموالهم ليس حقا عليهم، بل هو صدقة يتطوعون بها، إلا أنهم لفرط رغبتهم في التصدق، وشدة حرصهم على المواساة؛ جعلوا السائل والمحرومَ كالشركاء لهم في أموالهم، فصار هذا الجزء الذي يداومون على التصدق به كالحق، معلوما لهم ولغيرهم .
إن المسارعة في الخيرات لهي باب من أبواب إصلاح النفس، وإصلاح الحال، وإجابة الدعاء وغفران الذنوب؛ فما وهب الله لزكرياء ولده يحي ـ عليهما السلام ـ وما أصلح له زوجه إلا لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، قال تعالى :" وَزَكَرِيَّآ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِي فَرۡدٗا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡوَٰرِثِينَ . فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ يَحۡيَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ"سورة الأنبياء/89 : 90
"فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"سورة التغابن/16
وقانا الله وإياكم شح أنفسنا، وجعلنا وإياكم ممن يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا وكانوا له خاشعين.
وحفظ مصرنا من كل مكروه وسوء، ووفق قادتها لما فيه الخير والنماء.