في رحلتي كطبيب نفسي محترف وأنتمي لبيئة أرستقراطية وأهوى الأدب، حيث كان أبي شاعراً وأديباً كبيراً، لطالما كنت أطوف بذاكرتي أستدعي فيها حالاتي ومرضاي لأرصد ملاحظاتي ومشاعري وأحاسيسي، أحسبها عادة أظنني لا زلت حريصاً عليها، فوجدتني قابلت مرضى شتى من كل الألوان والثقافات عايشتها وتفاعلت مع كثير منها، حتى استوقفني خبر حلف يمين الوزراء الجدد ، فجالت في خاطري حالة ذلك السياسي المرموق وصاحب الياقات الأنيقة التي كانت قسماته تفصح بالهيبة والوقار ويخيل لمن يراه للوهلة الأولى أنه حازمٌ ومنضبطٌ لأقصى درجات الصرامة، حتى رأيته في إحدى زياراتي المتعاقبة قبل وفاته التي غالباً ما كانت تتم في سرية بالغة التعقيد شخصاً مغايراً غير الذي عرفته، وكان قد أُبعد من منصبه لأسباب لا أعلمها، حيث بدا مستسلماً مهموماً أوزعاً بين المهزوم والعازف عن الحياة ، وقال بصوت خافت لا أريد بعد اليوم علاجاً أو عقاقير فأنا أعرف علتي ودواءها ، واسترسل بلا تحفظ أو بروتوكول، هذا تاريخي حافلاً بالرياء والنفاق من أول سلمي الوظيفي ، وقد ألفت الأكل على كل الموائد من أجل الوصول إلى السلطة وإرضاء السلطان، نذهب مع الذاهبين ونعود مع العائدين نركب في كل السفن حتى إذا هوت شراع إحداها وبدأت في الغرق ، نكون أول من يقفز إلى الأخرى التي سترسو مكانها ، ومن فرط إمعاني في شخصية الخادم المطيع ، بدأ نجمي يبرق وتم ترشيحي لإحدى المناصب الرفيعة بعد أن حصلت على درجة الدكتوراه التي اقتبست أجزاءها من رسالة أجنبية وإن شئت قل سرقتها إلا عنوانها ، رغم أن هنالك العشرات بل والمئات من هم أجدر مني غير أني أتمايز عنهم بالتزلف والخنوع ، فالقاعدة في قاموسي كلما يزداد طموحك تطلعاً للأكثر فالثمن مزيد من النفاق والانبطاح ، حتى أصبحت أنا ومن على شاكلتي وهم كثر شركاء ومسؤولين بشكل أو بآخر عن تردي هذه الأوضاع التي تموج بها حياتنا طولاً وعرضاً وعلى كل الأصعدة، ، كنا لا نقوى على رفض سياسات أو أوامر نرى فيها مجافاة للحق والعدل، ولا غضاضة أن ندلي بأرقام وتصريحات على خلاف الحقيقة، وها أنا قد ذهب عني سلطاني وعزلوني وبلغني ما بلغني من الكبر والمرض ، وأشعر بأن الأجل قد اقترب وليس في جعبتي من حياتي غير الظلم والفساد ، فتمنيت لو عاد بي الزمن أن أعيش فلاحاً بسيطاً أجيراً يسوق بضع غنمات لفلان أو فلان هنا أو هناك ، لا حظ له من القراءة أو الكتابة غير أني أقرأ القرآن متمتعاً فأخذ أجرين ، نهاري بيني و بين غنماتي ، وسمر الليل عندي بين ذكري وتسبيحي ، ولا أبرح عتبة بابي إلا لأعود مريضاً أو أسأل عن محتاجٍ وإن سألني سائل من هو عمدة قريتكم لاتسعفني ذاكرتي ، ولا شأن لي بالسياسة أو أصحابها ، كل ديدني قيراط أرضي وطيوري وغنماتي .
رحل هذا الرجل السياسي اللامع صاحب السطوة والسلطان وهو يتنكر لحياة الأثرياء، ولم يتحقق له حلمه لينعم بحياة الفلاح البسيط الأجير راعي الغنمات.
وها أنا أستعد لاستقبال مسؤولين جدد