يوميات نائب في المدينة
أذكر ذلك اليوم جيداً .. كانت قضية أم حملت سفاحاً ثم عند وضعها حملت طفلتها ووضعتها بجانب جدران مسجد وسط المدينة فالتقطها أحد المارة وتم إبلاغ الشرطة .
لم يكن من العسير أن تتوصل تحريات الشرطة إلى شخص الأم التي وضعت طفلتها هكذا لكنها لم تتوصل إلى شخص الأب الذي وضع بذرة هذه الرضيعة برحم أمها .
أتعامل مع مثل هذه القضايا بمنهج ربما يتوارى فيه القانون خلف أولويات أخرى .. اجتماعية وثقافية واقتصادية وأيضاً دينية .
يحضر القانون لكنه الحضور الخجل ربما يبدو أيضاً منكث الرأس وهو الذي يجب أن تكون قامته مرفوعة باعتباره أنه أهم وسائل الضبط الاجتماعي .
يجب أن يتوافر لدى المحقق مهارة وصف التهمة ومعناه أن يترجم الوقائع المسندة إلى المتهم إلى وصف قانوني منضبط محدد صحيح بالطبع .
وصف التهمة بهذا المعنى قالت بشأنه محكمة النقض المصرية أنه "عصب الحكم الجنائي" وهو بالفعل كذلك .
مهارة قانونية لا تتأتى إلا بعد جهد عقلي ووجداني وكلاهما لازم وضرورى .
في هذا الوقت كنت رئيساً للنيابة العامة وكنا نبحث عن الوصف الصحيح للتهم التي تقدم بمحاضر الشرطة مهما كان وصف تلك الأخيرة مجافياً للحقيقة بل وأحياناً شنيعاً ارضاءً لمفهوم مجتمعي لا أعلم منذ متى بات ينحاز إلى الجانب الأقوى حتى ولو كان ظالماً ثم يشحذ كل أسلحته لتنال من رقاب الضعفاء ولو كانوا في حقيقتهم ضحايا .
لم يكن العرف اللعين قد استشرى بعد والذي يقول أن على النيابة العامة أن تعطي الوصف الأشد للتهمة حتى ولو لم يكن ينطبق بالمرة على الواقعة ثم تترك الأمر لمحكمة الموضوع .
من أين أتت تلك القاعدة؟!
إن على النيابة العامة عندما يكون الأمر واضحاً غير ملتبس –على الأقل– أن تعطي للواقعة وصفها القانوني الصحيح الذي يتفق والنموذج الحقيقي للجريمة .
الضرب المفضي إلى الموت لا يمكن أن يكون قتلاً والسرقة العادية لا يصح أن تكون سرقة بإكراه . تعريض طفلاً لم يبلغ سنه سبع سنين كاملة وتركه في محل معمور بالآدميين لا يمكن أن يوصف بالشروع في القتل مهما انفعل شعور الرأي العام وهو شعور في الغالب الأعم غير منضبط وعير صادق .
عند استجواب المتهمة أقرت بالقصة كاملة . حملت مما وعدها بالزواج لكنه اختفى تماماً وكأنه لم يوجد عندما قرب يوم انفصال الجنين عن رحمها والخروج الحياة الحقيقية .
يخرج الجنين من ظلمة كفلت له سبل الحياة إلى ظلمة أخرى ستسلبها منه حتى ولو بقى على قيد الحياة .
إحدى الصور القاسية لمنطق لا نعرفه .
أعطيت التهمة وصفها المناسب دون أن أحملها ما لا يلتئم معها . لا التئام إلا عند يتناسق جسد الجريمة مع الثوب الذي ترتديه وغير ذلك يحدث حتماً التنافر .
عند التمشية بأصيل هذا اليوم على حافة شاطئ مياهه زرقاء دار هذا الحديث بيني وبين معاون النيابة:
رئيس النيابة:
لا تحسب أن طريق العدالة سهل .. على العكس تماماً إنه طريق شاق .. شائك . أكتر الأشياء التي تقف عقبه في طريق العدالة عندما يحدث التنافر مع النص .
معاون النيابة:
وعندما يتناقض النص مع العدالة؟
رئيس النيابة:
النص القانوني مادة في النهاية .. يضعه المشرع لاعتبارات كثيرة وله مصادره المادية أيضاً يمكن أن تكون فلسفته صحيحة أو خاطئية .. صياغته واضحة أو ملتبسة لكن العدالة رمز لا يمكن أن يخطئ .
معاون النيابة:
إذا حدث وتناقض النص مع العدالة؟
رئيس النيابة:
يصبح عليك واجب تطويع النص لكي يتفق مع العدالة وليس العكس .
معاون النيابة:
ماذا لو لم أستطع؟
رئيس النيابة:
سينتهى الأمر إلى أنك ستطبق القانون لا العدالة ..!
مرت السنون وأخذتني منصة محكمة الجنايات وعرضت علينا وقائع كثيرة تحتاج أن تطوع نصوص عقابها لكى تتفق مع العدالة وليس العكس ثم صار معاون النيابة أحد قضاة محكمة الجنايات ولم يغب عن مخيلته حديثاً قدحت به عقولنا ونسجته ضمائرنا ونحن نسير معاً بأصيل يوم على حافة شاطئ .. مياهه زرقاء .