السبت 27 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 خُلق الإنسانُ بفطرةٍ تميل إلى الخير وتؤثره إيثارَ الطيور التحليقَ في الهواء،غير أن الإنسان لا يقوى على فعل كلِّ خيرٍ يصبو إليه؛ لقلة مال، أو ضعف صحة، أو تقدم سن، أو غير ذلك من الأسباب التي تحول بينه وبين فعل الخير.
 لكن اللهَ ـ عز وجل ـ برحمته وكرمه ـ يرفعُ الحريص على التَّصدُّقِ إلى درجة المتصدقين ـ وإن لم يتصدق ـ لأن حرصَه، وخلوص نيته أرجح عند الله من عجزه وقلة ماله .
انظروا إلى امرأة عمران ـ عليهما السلام ـ كانت حُبْلَى، فنذرت ما في بطنها لخدمة بيت الله ـ وكانت تظنُّه ذكرا ـ وكان لا يخدم بيت الله إلا الذكور. 
كانت حريصة على ذلك، حيث رجحت خدمة بيت الله وآثرتها على امتلاء حضنها بوليدها، فلما وضعت أنثى تحسرت على ضياع رجائها، وعدم قدرتها على الوفاء بنذرها، لكن الله تقبل تلك الأنثى بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا، محقِّقا بذلك رجاءَها، ومتقبِّلا نذرها. 
قال تعالى:"إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ . فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ . فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا " سورةآل عمران / 35: 37
وفي غزوة العسرة يأتي رسولَ الله رجالٌ كلُّهم حرصٌ وصدقٌ على الخروج معه، لكنهم لا يملكون ما يركبون، ولا يجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يحملهم عليه، فيرجعون وأعينُهم تفيض من الدمع ألما وحزنا وحسرة لعدم خروجهم  مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسبب أنهم لا يجدون ما ينفقون .  
 قال تعالى:"لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ . وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَيۡهِ تَوَلَّواْ وَّأَعۡيُنُهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ"سورة التوبة/91: 92  
 لذا يقول عنهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن خرجوا معه : "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ !! قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؛ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" صحيح البخاري/4423
لقد رفعهم الله بحرصهم على الخروج إلى درجة المشاركين لأنهم قعدوا راغمين . 
 فيا من امتلأت قلوبُهم شوقا لحج بيت الله الحرام ومنعكم مانع: لا تحزنوا فالله يمنحكم بفيض شوقكم، وشدة حرصكم، وصدق نيتكم ثوابَ الحجاج المعتمرين .
أقول هذا ونحن على أعتاب ليال مباركة،عليكم أن تغتنموها بالإكثار من الذكر، وفعل الطاعات، لأن الله جعلها موسما مشتركا بينكم وبين حجاج بيت الله؛ فتعرضوا فيهن لنفحات رحمات الله.
تلك الليالي هي: العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة المحرم، ليس في السنة كلِّها عشرُ ليال متتابعةٍ مثلهن في التعظيم والحرمة والشرف؛ ففي ثامنتها ليلةُ التروية، وتاسعتِها ليلةُ عرفة، وعاشرتِها ليلةُ النحر، فعشر ذي الحجّة وقتُ مناسك الحج.
وهي أوقات عُيِّنَتْ لتلك العبادات بتعيين الله ـ جل في علاه ـ لحكمة لا يعلمها إلا هو، فكانت حرمتها بتحريم الله يوم خلق السماوات والأرض.أقسم بهن الحق فقال:" وَٱلۡفَجۡرِ . وَلَيَالٍ عَشۡرٖ"سورة الفجر/1: 2
فاغتنموها فرصةً لتزكية النفوس وتطهيرها من العلل القلبية، حتى تتهيأ لاستقبال الأنوار والنفحات والرحمات الإلاهية .
اغتنموها بالصوم فصيامها مستحب، وكان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة. (السنن الكبرى للبيهقي/ 8176)  
اغتنموها بالإكثار من العمل الصالح فما "مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ"(المعجم الكبير للطبراني/ 10303)  
 اغتنموها بالذكر لا سيما التكبير، والتهليل، والتحميد ، فقد كان أبو هريرة وابن عمر ـ رضي تالله عنهما ـ يأتيان السوق أيام العشر، فيكبِّران، ويكبِّرُ الناس معهما، لا يأتيان لشيء إلا لذلك، وإن تكبير الناس لكثرتِه ليُشْبِهُ الأمواج .( فتح الباري لابن رجب طبعة: دار ابن الجوزي، السعودية 6/ 112)
رزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام ، ومتعنا بزيارة مسجد خير الأنام .
وحفظ بلادنا من كل مكروه ، ووفق قادتها لما فيه خيرها ونماؤها .

تم نسخ الرابط