علم الحديث أو علم مصطلح الحديث، هو العلم المعني بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، بين الرواية والدراية، وكما هو معلوم أن التيار السلفي ومن قديم يقيم هالة كبرى لهذا العلم ويعتبره أساس الدين وسيد العلوم ومناط الشرع ومعين الملة ومبعث التوحيد، بل جعل بعضهم في حزم الواثق أن الطائفة الناجية التي ستظل على الحق مع تشعب الأمة إلى فرق وجماعات كما جاء في الحديث الشريف:«لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»
جعلها بعضهم أهل الحديث وتصدروا في ذلك بقول أحمد بن حنبل رضي الله عنه: "إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث، فلا أدري من هم؟"
والسلفيون والحق يقال رغم كثير من المعايب في الفهم والوعي، من أكثر الناس تحرياً للسنة، ظاهرا وباطنا، وأكثرهم طلبًا لمسالك النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، بل أكثرهم حربًا للبدعة والضلالة التي تخالف صريح السنة، ونصوص الحديث.
وهذا أمر يحسب لهم كثيرا، ويحمدون عليه، وإن كانت تحدث أحيانا من بعضهم فيه شيء من مغالاة، او مجافاة لروح النصوص، إلا أن خضوعهم لنص الحديث والالتزام بمنطوقه أمر مقدس ومقدم لا يعلوه شيء.. ومحاولة تطبيق حال النبي في كل مسالكه تأخذ منهم جهدًا وتحريًا دقيقًا يقظًا.
منذ أيام رحل الشيخ الجليل محمد عبد الباعث من علماء الإسكندرية، وكنت أستمع إلى الرجل فيما مضى، وكنت أعرف أنه من رموز الصوفية، لكنني لم أكن أعلم أنه من أهل الحديث والمعنيين بعلومه، وهو الأمر الذي أعاد إلى ذاكرتي تلك الفكرة التي كنت أتعجب منها قديما حينما أجد عالما من علماء الحديث منتميا إلى الصوفية، وهي إشكالية أثارت العجب والريب داخلي، بل تستدعي كثيرا من الحيرة والتأمل، إذ كيف يكون الرجل من أهل الحديث وهو قائم على بدعة أو معرضا عن نكرانها او مواليا لقوم يقولون بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ومتسامح معهم كل التسامح وهم يذكرون الله بحال وطرق لم يشرعها رسول الله او يعمل بها أو تنتسب إليه؟
لماذا يتساهلون في التفريط في الالتزام الدقيق بالسنة، وهم من علماء الحديث، وأجدر بهم أن يردوا عن الدين كل ما هو غريب عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته!.. وهو مما حدا بالبعض أن يعتقد بصواب كثير من الأضاليل التي تعيب طريق الصوفية، لمجرد أن بعض علماء الحديث ينتسبون إليه.!
والحق أنه منذ زمن قديم ارتبط الصوفية بعلم الحديث، وكان منه وفيه أئمته ورواته الذين بلغوا أعلى مراتب الحفظ والرواية
حتى أن ابن تيمية نفسه يقول في كتابه الصفدية: "الشيوخ الأكابر -الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412هـ/1023م) في طبقات الصوفية وأبو القاسم القُشيري (ت 465هـ/1074م) في الرسالة- كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث، كالفُضْيل بن عياض (ت 187هـ/803م) والجُنيد بن محمد (البغدادي ت 297هـ/910م) وسهل بن عبد الله التُّـسْتَري (ت 283هـ/896م) وعمرو بن عثمان المكي (ت بعد 300هـ/912م) وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي (ت 371هـ/982م) وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب".
وبعض المنتسبين للتصوف يقول ردا على من يتهمون الصوفية بالبدع والضلالة مستغلا رسوخ قد بعضهم في علم الحديث فيقول:
" إذا حكمنا أن التصوف ضلال بلا استشناء فلا بد أن نطرح من صحيح البخاري حديث 690 ومن صحيح مسلم 30 حديثا لأجل سفيان الثوري لأنه كان صوفيا كما ثبت في صفة الصفوة لابن الجوزي ج1، ص12 أنه كان يأخذ عن الصوفيين وثبت في طبقات الصوفية ج1، ص387 أن سفيان كان يصاحب الصوفية .ولو قلنا أن الصوفية ضلالة لا بد أن نسقط من سنن الكبرى للنسائي 7حديثا ومن معجم الكبير للطبراني 22 حديثا والكبرى للبيهقي 69 حديثا وشعب الإيمان 114 حديثا لأجل أحمد بن يحيى الصوفي وأحمد بن محمد الصوفي وغيرهما. ونطرح من موارد الظمعان 38 حديثا، ومن المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم 179حديثا وصحيح ابن حبان 69 حديثا ومن الشريعة للآجوري 35 حديثا لأجل أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي. بل إذا قلنا أن الصوفيين مشركون لتوسلهم عند قبور الصالحين فلا بد أن نحرق جميع كتب ابن حبان صحيحه وثقاته وغيرهما لكونه يتوسل عند قبور الصالحين ونحرق المعاجم الثلاثة للطبراني وكتب ابن أبي عاصم كلهم كانوا يصاحبون الصوفيين ويأخذون عنهم ويتوسلون"
وهنا تحدث الصدمة العنيفة لبعض أتباع السلفية، الذي يظن ان ضلال بعض الصوفية إنما ينبع من الجهل الصريح بالسنة وحال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنهم أبعد ما يكونون عن هذا العلم ودروبه، فإذا بالدهشة تعقد لسانه حينما يرى متمسحًا بالأضرحة او متوسلا بالأولياء أو طالبا المدد من دون الله، يندهش حينما يعلم أنه من علماء الحديث، والمتخصصين فيه.
ورأيي أنه لا غرابة أن نرى بعض الناطقين بالبدع والمناصرين للخرافة والضلالة من بعض من ينتسبون إلى التصوف من أهل الحديث وعلمائه، والتفسير هنا لهذه الغرابة، أن مثل هؤلاء قبل خوضهم في تخصص الحديث، كان لديهم معتقد صلب متين، بأن علم الحقيقة غير علم الشريعة وأنه يجب التفريق بين الأمرين، ومن ثم إذا كان هناك ألف حديث وحديث ينهاهم عن مسلك من المسالك، لا يلتفتون إليه لاعتقادهم بعلم الحقيقة، فإذا بهم صامتون متخذلون عن نصرة السنة الصحيحة ورد البدعة ونكران الضلالة.
وبعض المنكرين عليهم يفسر هذا التضارب بأنه انفصام في الشخصية، فقد يوجد العلم ولا يوجد التطبيق القوي له.
بقي أن نشير إلى أنه يجب التفريق بين الصوفية قديما ومن يحتج بهم في البراعة في علم الحديث وبين صوفية هذا الزمان من أهل الحديث، فإن القدماء كانوا على السنة والتزام مواطنها لا يحيدون عنها قيد أنملة حتى أن ابن تيمية نفسه مدحهم وأشار إلى ورعهم واستقامتهم كما ذكرت في كتابه الصفدية.
أما المحدثون في هذا العصر فأغلبهم، ولا أقول كلهم، يحدث لديه هذا الانفصام المذكور، ويعتبر أن علم الحدث من جملة علم الظاهر أو علم الشريعة الذي لا يجب اتباعه إذا عارض علم الحقيقة، بل تجد منهم من يتحدث معك في ثقة بأن السنة واتباع الرسول الكريم هو ميزان التصوف، ويصدر لك بعض أٌقوال أهل الطريق في التزام السنة، وأن علم الحقيقة من أساسه لا قوام له إلا بعلم الشريعة، وأن من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، وغير ذلك من الأقوال الرائعة القويمة، لكنك للأسف إذا أمعنت في الحال لوجد خلافه وضده، فبعض المواقف تلجئهم للخيار الصعب، إما الحدديث والرسول، أو الهوى والضلالة، التي يؤثرونها على الحق الظاهر.