الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

كنت أظن وأنا أتأهب للكتابة عن عمر أننى سأبدأ من قصة نومه تحت الشجرة والمقولة الخالدة التي رددها بتلقائية بالغة رسول ملك الروم: " عدلت فآمنت فنمت"
أو من قصة المرأة العجوز التي حمل إليها جوال الدقيق
أو من قصة طعامه الذى كان من الخبز والزيت .
كنت أظن ذلك .. لكن سرعان ما تبدد .
ساءلت نفسي قبل التأهب للكتابة عن عمر: ماذا تكتب وماذا تضيف؟
إن لدى كل راغب في الكتابة فكرة . يحال ألا يتصور ذلك .
لكن هل تضيف هذه الفكرة جديداً .
هذا هو السؤال وهذا هو التحدى الذي يجب أن تمليه الكتابة عبى كل من يتصدر لها .

هذا الرجل الذي أكتب عنه قرأت عشرات المؤلفات التي تتاولت سيرته ولم وقنعنى .
وقرأت عنه مئات الروايات ولم تنجح في أن أكف بحثى عنه .
ثم تطرقت إلى ما قال المستشرقون عنه وعن عصره وكثير منها باللغة الأجنبية ولم يزدنى ذلك إلا بحثًا أكثر عن الحقيقة .
فقلت إذًا فلنكتب عن الرجل برؤية معاصرة .
رؤية نسقط فيها الماضي على الحاضر حتى نعرف من نحن.. كيف كنا وكيف أصبحنا..!

جيوش عمر تتجه يمينا ويسارًا.. شرقًا وغربًا .. شمالًا وجنوبًا .
جيوش عمر تملأ التاريخ بصفحات جديدة من العدل والعلم واحترام الآخر وعقائد الآخر .
جيوش عمر تملأ الدنيا ببريق جديد من شمس صنعها الحق والعدل .
بقي الرجل في المدينة ولم يخرج مع الجيوش لقتال الروم والفرس .. لقد استمع إلي مشورة رجال حوله أصدقوه القول فيبقى يدبر شئون الرعية وقت الحرب .. يرأس غرفة مركزية يديرها يرسل ويتلقى الرسائل منها بشأن ما يجر على أرض العراق والشام .
بقي عمر في المدينة وظهرت في الأفق نجوم جدد تقود الحرب تخرجت في مدرسة خالد بن الوليد لكنها الآن تقود الحرب . هكذا تتحقق نبوءة عمر عندما قرر عزل خالد من قيادة جيش العراق .. كان الرجل ينظر إلي أبعد مما تحت قدميه كما اعتاد أن ينظر البشر وهكذا لمعت أسماء في التاريخ مثل سعد بن أبى وقاص بطل القادسية وأبى عبيدة بن الجراح بطل اليرموك.. 
هكذا تتواصل الأجيال في ظل حكم رشيد كان الرسول الكريم قد بدأه بإسناد قيادة الجيش لشاب لم يتجاوز العشرين من العمر هو أسامة بن زيد .

لم يعتزل خالد بن الوليد .. كان حاضراً بقوة . ليس بمقدور أحد أن يطفئ بريق خالد لكنها هى تداول السلطة والقيادة كما تعلمها عمر .

كانت الأمور كلها تشير إلى أن خارطة العالم قد باتت على وشك تغيير كبير .
يلوح في الأفق وهج شمس جديد آخذ فى الشروق وأن بينما بريق شمس أخر آفل نحو الغروب .
تلوح في الأفق دعائم دولة رشيدة في طريقها لأن تأخذ محل إمبراطوريتين مثل فارس والروم .
جاءت القادسية بنصر مبين .. و اليرموك علي وشك هذا النصر .

كانت الأخبار تردد عن هذا الرجل القابع بين سعف من سعاف المدينة جعله مركز قيادة .
حرب وسياسة ومن قبلهما عدل وشورى .
يتحدث العالم عن رجل لا يرى إلا في رجال يصنعون التاريخ .
من يكون هذا الرجل .. أين قصره .. وكم عدد حاشيته .. كيف يكون ملكه وصولجانه ما هيئة التاج الذى يرتفع فوق هامته .. ؟!

رسول كسرى يأتي إلي المدينة يبحث عن هذا الرجل . 
مبعوثاً لملك يدخل تحت حكمه نصف العالم جاء ليقابل عمر مقابلة رسمية .

إليكم ما حدث:
يدخل رسول كسري في خيلائه يرتدى ثوبًا حريرياً يشير إلى ثراء أمبراطوريته وسيفًا ودرعًا ممتطيًا فرسًا تشير إلى قوة جيشه وعزته بين الأمم .
يسير خلفه عدد من الحراس في ذات الخيلاء ، محملين كما أتخيل بهدايا ثمينة اعتاد الملوك تبادلها عند الزيارات الرسمية .
يتفقد الرجل من فوق فرسه أرجاء المدينة .
لم يلمح شيئا خارقًا للعادة .
كانت الناس قد ذهبت للحرب وبقى من لا يقدر عليها يزرع ويحرث .
الأسواق تسير بصورة عادية بلا رقيب .
الربوع الخضر تزين مرمى البصر والمراعى قد غدت بيتاً آمنا لكل دابة والإبل السمان قد دلت على أن رزقاً وفيراً قد صنعته مساواة حاكم حجب ابنه على ألا تكون له إبل مثلها .

يستوقف رسول كسرى أحد الرجال ويسأله:
ياهذا .. أين ملككم؟
الرجل يجيب:
ليس لدينا ملك .. بل أمير .
إذن .. أين قصر أميركم؟
يبتسم الرجل ويردد فى تعجب:
تريد قصر أميرنا؟! 
رسول كسرى: نعم .. أريد قصر أميركم .. أحمل رسالة إليه .
الرجل: إذن أنظر .. ( يشير بيده)
هذا هو القصر .. وهذا هو الأمير ..!

ماعهدنا له قصرًا .. اذهب إلى هذه الشجرة وتحدث معه يضجع تحت ظلها بعض الشىء .

وانصرف الرجل وترك رسول كسرى يحدث نفسه:
أمجنون هذا .. أينام الأمير تحت شجرة ..!
دون قصر أو حراس أو حاشية أو حدود أو أسوار .. !
ما عهدنا ذلك من قبل .

لم ير الرجل حقًا قصراً في المدينة فلم العجب .. لماذا لا يكون الرجل صادقًا؟
وذهب رسول كسرى إلى الشجرة التي نام تحت ظلها عمر .
كان يحمل رسالة من كسرى .
ربما كانت بداية محادثات بين الرجلين .
ربما كانت تتضمن صلح بين الدولتين .
ربما كان هذا أو ذاك .
هذا غير مؤكد .

لكن هناك مشهداً مؤكداً لا تخطئه عين ولا يتجاوز عقل .
أن الأمير ينام تحت شجرة يستظل بظلها من وهج شمس شديد .
وقف الرجل مشدوهًا أمام المشهد الفريد .
ربما حدثته نفسه بشىء من المقارنة بين هذا الرجل الذي لم يأخذ من طول الأرض إلا بقدر مساحة جسده  وبين قصر كسرى العظيم برحابته المهيبة .
بين تلك الرأس التي لا تتوجها إلا عمامة بسيطة وبين سوار كسرى وتاجه المرصعين بكل مظاهر البذخ .
أزعم أن بضع لحظات قد وقف فيها هذا الرسول مشدوهاً أمام هذا المشهد النادر في التاريخ كانت كفيلة بأن تعقد مقارنة بين حكم التاج وحكم العدل .
ببن فلسفة القوة التي تقبض على الحياة ببطشها وبين فلسفة الحياة التي تظل القوة برشدها .
هكذا دائماً البشر يحدثون أنفسه عندما تنزوي الكلمات إلى دائرة المحظورات .

أكان عمر يرتدي ثياباً مرقعاً؟
نعم كان يرتدي ثياباً مرقعً..! 
دون حرس .. ودون سور .. ودون حدود بينه وبين الرعية؟
دون سلاح ودون عتاد ودون خوف؟
نعم .
كان بلا أي مظهر من مظاهر قوة السلطة لكنه كان محصن بقوة أعظم . هي قوة العدل .

كم من ملك سقط وسط قوة السلطة وزيف التاريخ؟
كم من ملك سقط وقد تحصن بأسوارٍ وعتاد وسلاح وثروة وقداسة؟
انهم كثر وما تزال حركة التاريخ في دورانها .

هذا الرجل المدد فوق الأرض بثياب مرقع كانت جيوشه قد انتصرت علي الروم فى القادسية وحررت الشام
وكانت جيوشه على وشك أن تنتصر على الفرس وتحرير العراق .

أدعكم لحظات نتأمل الحديث الذى نطق به لسان الرجل بعد أن اختلجت به سرائره

" قد أذهلني ما أراه عن كل قول ..
دخلت وأنا أتساءل ..
من هنا خرجت تلك الجيوش التي غلبتنا عن بلاد الشام ..
والآن تحولت الدهشة إلى خشوعاً والحيرة يقيناً والجهالة علماً .
رجل دوخ الملوك وأعيا الجيوش لا يقر الملوك قرار من هيبته وتكون هذه حالته؟
ولكن ما العجب ..
جار الملوك واستبدوا ، فلا يزال أحدهم ساهراً خائفاً يترقب وأنت أيها الخليفة  ..
هل أن أقول يا عمر ..؟
أنت يا عمر عدلت فأمنت فنمت .."

كان سلاح الرجل .. العدل .. 
أدرك منذ أول يوم له في الحكم
أن السلاح الرشيد هو العدل وأن الدرع القوي هو الحق وأن الأمن الحقيقي ألا يكون بينه وبين رعيته سوى ظل شجرة ..!
فقط .. شجرة .

تم نسخ الرابط