ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 لم يكن لسيدة ترعرعت على ضفاف النيل بمصر، حيث الزرعُ والضرع، ولا لزوجها إبراهيم ـ عليهما السلام ـ رغبةٌ في السُّكْنَى بواد يفتقد أدنى مقومات الحياة، فلا ماء ،ولا زرع، ولا بشر، ولا طير، خاصة وأنها أم لطفل رضيع .
 لكنها لما علمت أن الله هو الذي أمر بذلك استسلمت راضية مُحِبَّةً لتكليف الله تعالى، وكلُّها يقين أنه لن يضيعهم.
لذا قام إبراهيم ـ عليه السلام ـ متضرعا بصفته زوجا وأبا قائلا:"رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ" سورة إبراهيم /37
 فهو يُخبر الحق ـ سبحانه ـ أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع ـ والله يعلم ـ لكنه أراد أن يقدم لدعائه بما يعكس شفقته، وقلقله، وخوفه على زوجه وولده ،وكلَّ مشاعره التي كشف عنها الفعل" أَسۡكَنتُ "،بما يعني أن هذا المكان لم يكن باختياره ولا باختيار زوجه، وأنه لم تكن لهما رغبة في الإقامة فيه، بل كان باختيار الله وأمره؛ لأنه يُقال: سَكَنَ في المكان أي: عن رغبة، وأسْكنْتُه فيه أي: دون رغبة.
وتأتي كلمة " ذُرِّيَّتِي": بما تحمله من معاني الضعف وانعدام القدرة؛ لتفيض بمشاعر الاستعطاف، والاسترحام، والخشية على ولده وزوجه التي جعلها من ذريته، لأنها لم تكن تقل في حبه لها، وخشيته عليها عن حبه لولده، وخشيته عليه، وأن كلاهما في الضعف والافتقار إلى الرعاية سواء .
ولما كان هذا الوادي غير ذي ذرع، إلا أنه عند بيت الله المحرم ،كان المعنى: أنه لا ينبغي أن يكون عند بيت الله المحرم ظمئان ولا جائع إكراما للبيت، ولو جعل البيت بواد ذي زرع لما ظهرت بركته، لكن شاءت إرادة الله أن يكون بمكانٍ قفرٍ وتُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدن الحق سبحانه وتعالى .
وهذا يعني أن تنفيذ تكليف الله سبحانه وتعالى كان أحب لإبراهيم وزوجه ـ عليهما السلام ـ من كل شيء، لذا لم تتخل عنهما العنايةُ الربانية، بل تفجر الماء في الوادي، وهَوَتْ إليه أفئدة البشر والطير حتى صار مثابة للناس وأمنا . 
وكذلك مقام إبراهيم عليه السلام ، وهو الحجر الذي كان يقف عليه ليزيد من ارتفاع قواعد البيت بمقدار ارتفاع ذلك المقام، قال عنه الحق سبحانه : فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ " سورة آل عمران /97
 هذا المقام دليل وشاهد ليس على تنفيذ إبراهيم وولدِه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ لتكليف الله لهما برفع القواعد فحسب، بل على حبهما لذلك التكليف؛ الأمر الذي جعلهما لا يكتفيان برفع القواعد بمقدار قامة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بل زادا من جنس ذلك التكليف .
لذا كان من رحمة الله ـ سبحانه ـ وعونه ومدده وتأييده لإبراهيم عليه السلام أن ألان هذا الحجر تحت قدميه لتغوصا فيه حتى الكعبين فتتحقق بلين الحجر راحة قدميه، وثبات واتزان جسدِه .
فكان في ذلك المقام،وفي بقائه آياتٍ بينات على ذلك،وعلى نبوته وصدقه عليه السلام، وعلى أن الله للمستقيم الطائع المقبل على أداء تكاليفه مُيَسِّرٌ ومعين.
 لقد أُمِر إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يُسْكِن زوجه وولدَه الذي رزق به على كبرٍ واديا غير ذي زرع فامتثل وامتثلت، فتفجر الماء في الوادي.
ثم لما بلغ معه ولده إسماعيلُ السعيَ، أُمر بذبحه بوحي من الله في الرؤيا، فأسلما لأمر الله، ففداه الله بذبح عظيم .
كلفه الحق بكلماتٍ، فأتمهن، فجعله للناس إماما،وأثنى عليه لاستقباله لها، بحسن الطاعة وسرعة الامتثال، وكمال الأداء قائلا :" وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ" سورة النجم/37،
فاستقبلوا تكاليف الله بحب يعلي مقاماتكم ، ويرفع درجاتكم ، ويضاعف حسناتكم .
ولا تترددوا في سرعة الاستجابة لأوامره،والانتهاء بنواهيه يكن لكم حافظا، ومُيّسِّرا، وموفقا، ومعينا. 
  أعاننا الله وإياكم على طاعته وحسن عبادته، ورزقنا وإياكم حج بيته الحرام، وزيارة مسجد خير الأنام صلى الله عليه وسلم .
وحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، ووفق قادتها لما فيه الخير والنماء .

تم نسخ الرابط