الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

بعض الناس حينما يريد أن يشوه صورة خصم له أو يثير حفيظة الناس عليه، فما عليه إلا أن يدعي أن أصله يهودي.

ويدلل على هذه الفرية بما شاء من بواعث الاتهام.

لأنه يعلم أن هذه التهمة وحدها، كفيلة بازدراء الموسوم بها، أو التحسس من معاملته، أو النظرة لها بعد إطلاقها عليه بأي نوع من الاطمئنان.

والحق أنها عنصرية يرفضها الإسلام ويستنكر إطلاقها أو التسليم بها، فليكن هذا المتهم أصله يهوديا أو كافرا أو أي ملة من الملل، ولكن ماذا عنه الآن وكيف حاله وما موقعه؟ إنه مسلم موحد بالله ملتزم بتعاليم الإسلام، ولقد جاء في الحديث الشريف أن الاسلام يجب ما قبله، ولربما نتعجب حينما تصدر مثل هذه التهم العرجاء وتطلق على أئمة في الدين والعلم وأناس لهم في الدعوة قصب السبق والفضل العظيم.

وهذه التهمة سياجها وحظ الناس معها قديم قديم، ضارب بعمقه في تاريخ الإسلام.

حتى عصر النبي صلى الله عليم وسلم فقد بلغ صفيةَ أن حفصةَ قالت: بنتُ يهوديٍّ فبكت فدخل عليها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهي تبكي فقال ما يُبكيكِ؟ فقالت قالت لي حفصةُ إني ابنةُ يهوديٍّ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنك لابنةُ نبِيٍّ وإن عمَك لنبيٌّ وإنك لتحتَ نبِيِّ فبِمَ تفخرُ عليك؟ ثم قال اتقي اللهَ يا حفصةُ.

ولعل هذا يعود لما تكونت به فكرة المسلم عن اليهود، فهم أخبث الناس وأكثرهم شرا وكيدا للإسلام والمسلمين، أي أنهم في تصور المسلمين رمز الشر.

ولقد بلغت الحساسية القديمة أن صار المسلمون يتحسسون من أي يهودي حتى ولو حسن إسلامه وهو ما تناول به بعض الرواة متشككين في الصحابي الجليل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار لأن أصلهما يهودي.

وعبر العصور الإسلامي تتعجب كثيرا حينما أراد خصوم الإمام ابن رشد أن يشوهوا صورته، فلم يجدوا إلا ذات التهمة لينعتوه بها، حتى يجسدوا أمام الناس شره ومكره وسوء منهجه.

الرجل الذي يعد مفخرة الأمة الإسلامية لم يجد حساده ومبغضوه غير هذه التهمة لتكون أقصى ما يعمدون به لتشويه سمعته، فقد حاول بعض هؤلاء الحساد أن يطعنوا فيه بعد نكبته وخلافه مع الخليفة ، وحكم الأخير عليه بالإقامة الجبرية في قرية (أليسانة) بجوار قرطبة، والتي كانت مسكنا وتجكعا لليهود، فقالوا: إن الخليفة نفاه إليها لأنه ينسب إلى بني إسرائيل ، وأنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس.

وكان هناك مبعث آخر لهذا الاتهام وهو أن أغلب الأطباء والفلاسفة في الأندلس من أصل يهودي أو نصراني، وهو مما عضد التهمة وساند الشبهة.

وأنا لا أعلم ما الحرج في أن يكون أصله يهودي، ولكنه أسلم وحسن إسلامه وزاد على هذا بأن كان من العلماء والفقهاء الذين أفادوا الدين والدنيا وقدموا الكثير من ثمار عقولهم وطرح إبداعهم؟

إن إحياء مثل هذه الأقاويل هو منكر يرفضه الإسلام وعنصرية بغيضة لا يعترف بها.

وفي العصر الحديث كان أبرز من استخدم هذه التهمة وأشاعها هو الأستاذ العقاد، حينما كان وفديا متعصبا، ورأى أن جماعة الإخوان المسلمين صار لها نفوذها الشعبي الذي بدأ يسحب البساط من تحت حزب الوفد، فعمد العقاد وكان وقتها كاتب الوفد الأول، إلى تشويه الجماعة ووصف مرشدها حسن البنا بأن أصله يهودي مغربي.

لأنه ووالده مهنتهم تصليح الساعات وهي مهنة اليهود في المغرب، لأجل هذا التواؤم في المهنة يرجع أصله لليهود.

والحق أن هذا الاتهام لا أعلم كيف صدر من الأستاذ العقاد الذي له رأي وعقل يحترم، ولا يمكن أبدا تحت أي ضغط أو رغبة أو هوى أن يميل عن الحق والصواب من أجله، فكيف يغيب عنه نسب حسن البنا؟ 

ألا يعلم ابن من هو ؟

إن والده من أكبر علماء السنة في عصره، بل لم يكن مجرد عالم عادي يروي السنة وينشر علومها في الافاق محدثا راوية، ولكن الرجل ترك تراثا عظيما يعرفه علماء التخصص بأنه عمل ضخم غير مسبوق، وهو ترتيب وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل والذي سماه (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني)

رجل بهذا العلم وهذه القدرة وهذه القدم الراسخة في خدمة الإسلام والسنة يتهم هو وولده بأن أصولهم يهودية؟

كيف هذا؟

وحتى إن صار فما الضير إذن أن أصولهم يهودية ثم أسلموا وحسنوا إسلامهم وصاروا من خدم هذا الدين؟!

لقد كان الامام القاضي أبو زرعة بن إبراهيم أول قاض للشافعية في مصر في دولة ابن طولون، عام 284هـ وكان جده يهوديا وأسلم.

وفي كتاب الأذكياء لابن الجوزي كما نقل الدكتور ابراهيم عوض في كتابه عن ابن رشد عن ابن الأشعث قال: سمعت أبي يقول: كان هارون الأعور يهوديا فأسلم و حسن إسلامه وحفظ القرآن وضبطه وحفظ النحو.

فناظره إنسان يوما في مسألة ، فغلبه هارون، فلم يدر المغلوب ما يصنع فقال له: أنت كنت يهوديا فأسلمت.

فقال له هارون: أفبئس ما صنعت؟

أي هل ما فعتله شيء بئيس مرذول؟

بل لا أبالغ إن قلت لك: إن بعض اليهود الذين أسلموا كان لهم أعظم الفضل على أمتنا، بل قاموا بخدمتها أعظم قيام وقدموا لها أعظم يعينها على حفظ الدين والملة.

فهذا الأزهر الشامخ الذي تعتز به الأمة الإسلامية وهذا أثره في نشر العلم وتخريج العلماء، فهل تدري من أقامه وأنشأه وأسسه، ومن هو صاحب فكرته؟

إنه رجل كان في أصله يهودي على غير ملة الإسلام؟!

نعم وبكل اندهاش وتعجب.. فمن صنع هذه المدرسة العملاقة، التي ظلت على مدار أكثر من ألف عام شامخة عالية رفيعة كريمة، تدفع بالعلماء، وتخرج الدعاة الذين أرسوا معالم الهداية والنور في جنبات الدنيا، رجل كان في أصله يهودي.. لكنه اهتدى للإسلام وصار رفيع المكانة علمًا وقدرا جاها.. 

فما الحكاية وما القصة؟!

إنه الوزير الأجل كما كان يلقبه الخليفة الفاطمي العزيز بالله، واسمه (أبو الفرج يعقوب بن بوسف بن كلّس) واسمه يدل على ذميته، وكان يهوديًا نشأ في بغداد وغادرها في شبابه إلى الشام، حيث عمل بالتجارة ولما أثقلته الديون وعجز عن أدائها، فر إلى مصر في عهد (كافور الإخشيد) واتصل به وصار من رجاله، وأقام ببعض المهام المالية بخبرة وبراعة، وكثرت أمواله حتى أعجب به كافور، ولما بلغه أنه قال عنه: ( لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا) رأى الإسلام أفضل الطرق لتحقيق طموحاته، فدرس قواعد الإسلام وأصوله سرا، ثم أعلن إسلامه، حتى علت مراتبه وقويت أواصره واشتهر أمره وقويت منزلته، ولكن بعض وزراء البلاط خافوه، ولم يعجبهم تقدمه ولم يرق لهم نفوذه، وتوجسوا من مستقبله شرا، فدسوا له الدسائس وأوغروا عليه الصدور، فنظر في أمره وعلم أنه أوقع به، ففر هاربا إلى المغرب عام (357) هـ، ولحق بالمعز لدين الله الفاطمي، والذي كان في هذا الوقت يتجهز لغزو مصر، ولقيه المعز بحفاوة كبيرة، وقدر فيه مواهبه وملكاته، واستعلم منه أنباء مصر وأحوالها ومواطن قوتها ومكامن ضعفها، وظل معه حتى تم فتح مصر، فولاه المعز الخراج والأموال والحسبة والأحباس وسائر الشؤون المالية، وعهد إليه بشؤونه الخاصة، ولما توفي المعز عام (٣٦٥)هـ، تولى بعد ولده العزيز بالله الذي كانت منزلة ابن كلس عنده أفضل من منزلته في عهد أبيه حتى أنه لقبه بـ(الوزير الأجل) وصار أقوى رجل في الدولة.

قال عنه الذهبي: "وكان عالي الهمة، عظيم الهيبة، حسن المداراة، داهية، ماكرا، فطنا، سائسا، من رجال العالم فكان من أنبل الوزراء، وأحشمهم، وأكرمهم، وأحلمهم "

لم يكن (ابن كلس) كما ذكر عنه وزيرًا وسياسيًا فقط، بل كان عالما وأديبا كبيرًا، محبا للعلم والعلماء، وكان يَعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية، ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء، ويُشرف عليها بنفسه ويهتم بروادها ويغدق عليهم العطاء، ولم يكن محبًا للعلم فقط، بل كان من المؤلفين والمصنفين حيث وضع كتابًا في القراءات، وكتابا في الفقه، وكتابًا في آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابا في علم الأبدان والصحة، ومختصرا في فقه الشيعة، وكان يُناظر العلماء ويقرأ كتبه بالأزهر الشريف.

جلس ابن كلس في رمضان عام (369)هـ وقرأ على الناس كتابا ألفه في فقه الشيعة وهو الكتاب المعروف بـ(الرسالة الوزيرية) وكان الناس يلتفون حوله ويهرعون إلى سماعها، حتى جاء تفكيره بعد ذلك في اتخاذ الجامع الأزهر معهدًا للدراسة المنظمة المستقرة، فاستأذن الخليفة العزيز بالله في أن يُعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس، يحضرون مجالسه ويلازمونه ويعقدون مجالسهم بالأزهر في كل جمعة وكان عددهم (37) فقيها ورتب لهم العزيز أرزاقًا وجرايات شهرية حسنة، وأنشأ لهم دارًا للسكنى بجوار الأزهر وكرمهم وشرفهم وأعطاهم كذلك (ابن كلس) من ماله الخاص، وكانت هذه الخطوة هي البداية الأولى للجامعة الازهرية، والانطلاقة الكبرى للمعهد العلمي العريق.. 

كل هذا كان بفضل الوزير ابن كلس وبعد نظره وحبه للعلم.

وختاما أقول: مرحبا بكل من كان أصله يهوديا وقدم للإسلام مثل ما قدم هؤلاء.

تم نسخ الرابط