الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

صادفت أكثر من منشور يُقلل من قيمة أنيس منصور: "قرأته أيام المراهقة، ولما كبرت وجدته صغيرًا".."رغى في الفاضية والملآنة".. "كان يكتب في القشور ولم يكن عميقًا".. منشورات كثيرة لا سبب لها، تدوي في الفراغ وترمي أنيس بالفراغ..

لم يقدم أنيس منصور نفسه على أنه نيتشه أو سارتر، ولم يقل إنه أهم من طه حسين. قال إنه قرأ في كل شيء، وكتاباته أكدت ذلك.. نقل صالون العقاد بأسلوب سهل يسّرَ علينا كثيرًا من تعقيدات العقاد.. لم يكتب وتحت إصبعه مفتاح الدخول إلى (جوجول)، كتب من رأسه ومكتبته.

ليس ذنب أنيس منصور أنه اقترب من السادات وفقد جماعة اليسار وكرهه الإسلاميون، فخسر كل شِلّة.

 معاليك صِرتَ عميقًا، ولم يعد أنيس منصور يناسبك، لكن صدقني- وهذا رأي لا ألزمك به- أجمل ما يمكن تعلمه من أنيس منصور بساطة الأسلوب، سلسلة كلام تسحبك بهدوء لتكتشف أنك وصلت لنهاية المقال.. لم يكن عميقًا؟ ليس مهمًا، المهم أنه ضحك عليك وقيّدك في مكانك حتى أتممت القراءة..

ولأننا اعتدنا أن نذيل مقالاتنا بجملة: "أنا لا أدافع عن فلان.." فأنا أدافع عن زمنٍ جميلٍ، ظللت لسنوات وسنوات أصحو كل يوم لأبدأ يومي ب (مواقف).

بالمناسبة، هذا مقال من (مواقف) قديم احتفظت به ضمن بضعة كيلوجرامات من قصاقيص الأهرام.

المقال:

{ أنت تريد أن تذهب إلى فلسطين؟

نعم.

لأسباب كثيرة جداً.. إنه شعب له قضية وأنا إنسان بلا قضية.. إننا في مصر عندنا كل شيء جاهز موجود تنام وتصحو وأنت على يقين بأن كل شيء في مكانه لم يتغير.

تحرك الحنفية، ينزل الماء، تضع يدك على الحائط تضئ الغرفة.. والبيت سوف يبقى والشارع والمواصلات ومكتبك والصحيفة والتليفزيون.. كل شيء قد سبقك إلى الوجود وفي انتظار أوامرك.. ولكن في فلسطين كل شيء مشكلة.. كل شيء قضية.. إن نمت فلا تعرف إن كنت سوف تصحو، وإن صحوت لا تعرف إن كنت تستطيع أن تمشي في الشارع، وإن وجدت الطعام فلا تجد الشراب وإن وجدت الطعام والشراب فلا تجد الأمن، وإن ودعت أهلك فلست على يقين أن تعود فتجدهم.

 في مصر كل شيء قضية مسلمة.. في فلسطين كل شيء هو القضية.. ورغم كل ذلك فعندهم مشاعر كبرى: الحياة والموت والغضب والانتقام، وحرصهم على الحياة ليس هو الحل، وإنما الكرامة هي الأمل وهي القضية.. وكما درسنا في الفلسفة قال لنا الفيلسوف العظيم نيتشه: يجب أن تعيش في خطر.. أن تتمرغ على الألغام وأن تبني بيوتك على سفوح البراكين.. وأن يكون كل شيء قضية تفكر فيها.. وهذه القضية في انتظار دائم لرأيك لقرارك.. فأن تكون فلسطينيا هذه بطولة!

أما نحن في مصر فلا قضية.. ومنذ أيام الفراعنة والفرعون هو الذي يقرر لنا أن نعيش وأن نجوع.. وجاءت ثورة يوليو رفعت عنا المسؤولية وجردتنا من الإرادة وحملت لنا همومنا.. تماماً كما تحمل أم طفلها حتى لا يمشي ولا يجري.. أي حتى لا ينمو.. فقد أوقف الفراعنة في كل العصور نمو الشعب المصري.

 هل تساعدني؟.. على ماذا؟..  على هذا.. معك مسدس؟..  لماذا؟.. لكي أطلقه على رأسي لأنني ملعون، إذا بقيت هنا.. وملعون إذا ذهبت إلى هناك.. فسوف يرون أنني: إما ممثل أو عميل. 

وفي مصر سيرونني إرهابيا خائنا فأنا ملعون على كل حال}.

تم نسخ الرابط