ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

أن يُؤْثِرَ الإنسانُ التقرب إلى الله على حظوظه من اللذة الجسدية، فذلك يعني: رسوخَ قدمه في الإيمان، وفراغَ قلبه من الشواغل الصارفة له عن التبتُّلِ إلى الخالق جل في علاه.

 وأمارة ذلك مجافاة المضاجع والفُرُش ليلا إيثارا لمناجاة الله والتضرع إليه على راحة الجسد.

 يجعل القرآن ذلك من أحوالهم فيقول:"  تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا"سورة السجدة/16 

 إنهم يكثرون السهر بقيام الليل شكرا لله وذكرا وتسبيحا، خوفًا من غضبه، وطمعا في رحمته،وكرمه، ورضاه.

 فإذا آذن الليل بالانصرام، وجاء وقت السَّحر، سألوا الله أن يغفر لهم، فيصبحون من زمرة المتقين الذين يختصهم الله بكرامته، ويقول عنهم :"إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ . ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ . كَانُواْ قَلِيلٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ . وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ "سورة الذاريات/18:15

 إن سر فوزهم أنهم نظروا فرأوا في الآفاق وفي أنفسهم آياتٍ، فعلموا أن الله أهل لأن يُطَاَع ويُخْشى؛ فاجتهدوا وتركوا الهجوع، وأجروا الدموع، ثم قابلوا ذلك بنعم الله عليهم فإذا هم في الشكر مقصرون، فأقبلوا على الله بالسدس الأخير من الليل يستغفرون.

أما الذين آثروا حظوظهم من اللذة الجسدية، وشغلوا قلوبهم بالتوافه الدنيوية حتى استوطنتها العلل، فهم يمضون ليلهم بالنوم، لا يصرفهم عنه تفكُّرٌ ولا تذكُّر، بل يسقطون فى فُرُشِهم كما تسقط الأنعام في مرابضها حتى تستفيق فتمارس ما اعتادت عليه في نهارها. 

 إنها أسرار الليل حيث يكون التجرُّدُ للكمالات النفسية والأحوال الملكية، حالا للنفوس الزكية التي تنتمي في الأصل إلى عالم الملكوت، صرفَها عنه مُشَاغلةُ القوى البدنية والشواغل الدنيوية لها. 

 يقول السُّهَرْوَرْدِي في الهيكل السابع من هياكل النور:" "النفوس الناطقة من عالم الملكوت، وإنما شغَلها عن عالَمها القُوى البدنية ومشاغَلتُها، فإذا قويتْ النفس بالفضائل الرُوحانية، وضعُف سلطان القُوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر، فإنها تتخلص أحياناً إلى عالم القُدس، وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف".

 راجع أيضا : شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص: 277 ذلك أن السهر يُلطِّفُ من سلطان القوة الحيوانية.

 أما النهار فقد اعتادت النفس بحسب فطرتها وأصل تكوينها الاستئناسُ بنور الشمس، والنشاطُ به للعمل والاشتغال بالدنيا، ولو بالتفكر ومشاهدة الموجودات.

 إنه الليل حيث أُنْزل القرآن في ليلة منه مباركة، يقول الحق:" حمٓ . وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ . إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ" أول سورة الدخان.

 إنه الليل حيث جُعلت مناجاة موسى عليه السلام وانقطاعُه لعبادة الله تعالى في ثلاثين ليلة منه، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقاً ورغبة في مناجاة الله وعبادته، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال أخرى،حتى يكون أهلا لتلقي الشريعة، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، يقول الحق:" وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ " سورة الأعراف /142

إنه الليل حيث أُمِر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صدر رسالته بقيامه في قوله تعالى: "يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ . قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا" حتى تزدادَ سريرتُه بالقيام زكاء يُقَوِّي استعداده لتلقي الوحي، فكانت علة الأمر بالقيام "إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا" سورة المزمل/5 

 إنه الليل يطول ويبارك فيه بمقدار ما ينشط فيه المرء للطاعة والجد والمطالعة ويقصرُ وتذهب بركته بذهابه في النوم أو السفاسف، بدليل قول الحق: "قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا نِّصۡفَهُۥٓ" فجُعل النصف المخصص للهجوع قليلا مع أنه نصف، بما يفهم منه أن النصف العامر بالعبادة كثير، وكأن ساعات الليل تزيد بمقدار ما ينجز فيها من طاعة ومطالعة.

 إنه الليل حيث يجمُلُ التهجد بالقرآن الكريم : "وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا"سورة الإسراء /79

  إنه الليل حيث يُحمَد التسبيح "وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَٰرَ ٱلسُّجُودِ"سورة : ق/40

  إنه الليل حيث يكون القرب من الله بالسجود "وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَيۡلٗا طَوِيلًا"سورة الإنسان /26

إنه الليل حيث " ينزل ربّنا كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير فيقول: هل من مستغفرٍ فأغفرَ له، هل من داعٍ فأستجيبَ له " شرح صحيح البخاري لابن بطال،ج: 10، ص: 530، ط: مكتبة الرشد،السعودية . 

فأكثروا في الليل من الدعاء ، والتضرع.

أكثروا في الليل من التسبيح والذكر.

أكثروا في الليل من الاستغفار والتهجد بالقرآن.

  فما زال الليل بسكونه وهدوئه وقتَ شكر الشاكرين ، وذكر الذاكرين، واجتهاد النابغين .

رضي الله عنا وعنكم، وأصلح بالنا وبالكم أجمعين،وحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، ووفق قادتها لما فيه الخير والنماء إنه نعم المجيب.

تم نسخ الرابط