الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي


الإسكندرية مدينة غير عادية، فقد تم اختيارها في مؤتمر كبير عن المدن؛ كأفضل مدينة على مر العصور، وكانت قرطبة في المرتبة الثانية، ومدينة نيويورك الأمريكية في المرتبة الثالثة. وذلك ليس غريبا على الإسكندرية مدينة الفن والجمال وصانعة الحضارة، وفى ذلك يقول الأستاذ: أحمد لطفي السيد – أستاذ الجيل – في خطبة له في الإسكندرية، نشرت في العدد 445 من " الجريدة " الصادر في 23 أغسطس 1908:" الإسكندرية عنوان مصر الجغرافي، كذلك الإسكندريون هم عنوان المصريين في جميع الحركات الفكرية، وطليعة رسل التمدن إلى جوف الأمة المصرية "
                                     
ولاعتدال جو الإسكندرية، ومكانتها المهمة؛ عاش فيها الكثير من الأجانب واعتبروها مدينتهم، خاصة الجاليات اليونانية والإيطالية. فقد عاشوا في حواريها وأحيائها الشعبية، ولأسباب لا مجال لذكرها الآن فإن الأجانب يميلون  للفن أكثر منا، وقد تأثر الإسكندريون بالأجانب وأحبوا الفن مثلهم، وتغلغل في نفوسهم وعقولهم، فتميزوا عن باقي المصريين بالإحساس الفني. كما أن الإسكندريين أهتموا بتعلم اللغات الأجنبية. فيقول الأستاذ محفوظ عبد الرحمن في مقالة له بمجلة البيان: وأذكر أنني في الستينيات كنت أقدم الأفلام في نادي سينما الإسكندرية، وذات مرة كنت أقدم فيلما فرنسيا، وأكتشفت أنه ليس عليه ترجمة، فطلبت أن يتقدم أحد الحاضرين ليقوم بترجمة فورية، وفوجئت بأن نصف الجالسين وقفوا ليلبوا النداء.
حُب أهل الإسكندرية للفن، وإتقانهم للغات الأجنبية بسبب معاشرتهم للأجانب من جهة، ولحرصهم على تعلم اللغة في المعاهد التي كانت منتشرة في المدينة وقتذاك من جهة أخرى، جعلهم يهتمون بالسينما  ذلك الفن الوليد  أكثر من غيرهم في مدن مصر الأخرى. لذلك كانت الإسكندرية هي مدينة السينما وهوليود الشرق  فقد بدأ بها أول عرض سينمائي في مصر  بإحدى صالات بورصة  طوسون باشا في 5 نوفمبر 1896. والمعروف أن أول عرض سينمائي في العالم كان في أمسية  28 ديسمبر 1895في الجراند كافيه بباريس لفيلم وصول القطار لمحطة سيوتا للأخوة لومبير  أي أن دخول السينما إلى مصر كان عن طريق الإسكندرية، ولم يتأخر كثيرا عن بدء ظهورها في العالم.
وقد  سجلت السينما لنا تاريخ مباني الإسكندرية المهمة وحدائقها. فنشاهد فندق سيسل الشهير، وحديقة الشلالات التي ظهرت في الكثير من الأفلام المصرية، ومازلت أستمتع برؤية شوارع الإسكندرية القديمة في أفلام توجو مزراحي التي صورها في الإسكندرية لشلوم وعلي الكسار.
                                      
ولد توجو مزراحي في حي بولكلي بالإسكندرية في يونيو 1901  وتعلم في مدارسها حتي حصل علي شهادة في التجارة، بعدها سافر إلي إيطاليا ثم فرنسا لاستكمال دراسته العليا في التجارة، إلا أن السينما أستهوته فاتجه إلي دراستها. أنطلق توجو مزراحي في تقديم نشاطه الغزير في السينما، وبلغ عدد الأفلام التي صورها باستديو « باكوس » 41 فيلمًا كلها من إنتاجه وإخراجه ما عدا  فيلمً شالوم الرياضي فهو من إخراج ل. ناجل وكليمان مزراحي. يقوم شالوم فيه بدور بائع سندوتشات يقف أمام نادي الأتحاد وكمعظم أهالي الإسكندرية  كان مهتما بمشاكل النادي، ويحس بأزمته وحاجته إلى مهاجم، وفي رحلة بالقطار يقابل السيد حودة  لاعب الإتحاد السكندري المشهور-  فيقدمه إلى النادي، ويحل أزمته وقد شاهدتُ الكابتن السيد حودة في الستينيات أيام كان مدربا لنادي الإتحاد. 
وبمناسبة الحديث عن تأثير الجاليات الأجنبية على فن السينما في مصر فقد حدث أن إضطربت صناعة السينما في إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، نتيجة لإستخدام المواد الأولية التي يصنع منها الفيلم الخام في صنع القنابل التي تستخدم في الحرب. ففكر صغار الفنانين الإيطاليين وصغار رجال المال في إيجاد مكان آخر غير إيطاليا ليواصلوا منه أنتاج أفلامهم، فوقع اختيارهم على مدينة الإسكندرية، وذلك نتيجة لوجود جالية إيطالية كبيرة فيها وقتذاك، فتعاقد مسيو ( امبرتو دوريس) مع بنك دي روما لتمويل إنتاج الأفلام السينمائية في مصر.
أظهرت السينما معالم الإسكندرية، ومنها: فندق وحديقة  البوريفاج فصور فيهما الكثير من الأفلام مثل موعد غرام لعبد الحليم حافظ وفاتن حمامة لبركات، والزوجة 13 ومراتي مدير عام لفطين عبد الوهاب وحبي الوحيد لعمر الشريف ونادية لطفي لكمال الشيخ؛ وغيرها من الأفلام. وأفرح عندما أشاهد أحد الأفلام لحسين صدقي (لا أذكر أسمه الآن )، يقوم فيه بدور محامي يمر من أمام تمثال الخديو إسماعيل على البحر؛ ليذهب إلى المحكمة الكلية المجاورة للتمثال، أستعيد ذكرياتي عندما كنا نذهب إلى المنشية لرؤية الخديو اسماعيل الذي يمد يده بسيفه فوق قاعدة بيضاء جميلة كانت قد أهدتها الطائفة الإيطالية التي تعيش في الإسكندرية إلى الحكومة. لكن  حكومة ثورة 52 رفعت التمثال من مكانه ورمته في متحف الفنون الجميلة بشارع منشا، وكنا نراه من نافذة مكتبة البلدية – المجاورة لمتحف الفنون الجميلة – وهو ملقي على وجهه، بشكل سخيف لا يليق؛ إلى أن أعيد أقامته أمام المسرح الروماني منذ سنوات قليلة جدا.
علاقتي بالسينما 
بدأت علاقتي بالسينما منذ زمن بعيد جدا فقد شاهدت أفلام السينما قبل أن أتعلم القراءة والكتابة, ولظروف اجتماعية ونفسية خاصة بي، كنت أقضي وقت فراغي في شيئين لا ثالث لهما؛ هما قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام في السينما، فقد كان دخول السينما ميسورا لكل طبقات الشعب في ذلك الوقت، فهو لا يكلف كثيرا. السينمات في كل الأحياء؛ الفقيرة منها تذكرة الصالة الأمامية  بتسعة مليمات والجزء الخلفي بثلاثة قروش، والبلكون بخمسة قروش ونصف قرش. والسينمات في الأحياء الغنية بثلاثة قروش وخمسة قروش ونصف، وسينمات الدرجة الأولي تبدأ تذكرتها بسبعة قروش ونصف.
وكان قريب من بيتي سينما اسمها الجمهورية، فقد أنشئت بعد قيام الثورة وإعلان الجمهورية، وكنت أمر أمامها، وأشاهد العمال وهم يرصون البلاط فوق أرضيتها، وارتبطت بهذه السينما ارتباطا كبيرا، وبعد عدة شوارع من بيتي توجد سينما مصر التي كنا نطلق عليها سينما  النيل؛ لوقوعها في شارع النيل ( أكبر شارع في حي كرموز) وفي محطة مصر القريبة من بيتي توجد سينما ستار التي كنا نسميها سينما الدورادو، هذه السينمات تذكرتها في الصالة بتسع مليمات، والصالة الثانية بثلاثين مليما، ونحن لم نكن نتعامل مع هذه الصالة إلا في النادر.
العلاقة بين السينما والرواية    
السينما هي الثورة الإعلامية الثانية بعد اختراع المطبعة، فهي تشمل فنون التصوير والتمثيل والألوان والظلال والأنغام والقصة القصيرة والشعر والرواية. والعلاقة بين السينما والرواية بالذات علاقة وثيقة، فالسينما هي التي تصنع الشهرة للروائيين، فمعظم شهرة نجيب محفوظ – مثلا – مستمدة من السينما، وكثير من الناس  يحكمون على أدبه وفنه من خلال الأفلام المتخذة عن رواياته. كما أن العديد من الروايات المصرية نالت شهرة وإعجاب ليس بسبب قيمتها ككتاب ولغة، وإنما بسبب براعة كاتب السيناريو الذي حولها إلى فيلم أو تمثيلية. ولقد تحدثت مع روائي كان رئيسا لتحرير مجلة أسبوعية مشهورة، لم يكن سعيدا؛ لأن صحفية تعمل معه في المجلة، تحولت روايتها؛ إلى مسلسل إذاعي، ثم تليفزيوني ثم فيلما سينمائيا، فحققت الرواية المتواضعة شهرة كبيرة، وظهرت الكاتبة في أجهزة الإعلام وتحولت إلى كاتبة لامعة. فقلت له رأيي - الذي أسعده كثيرا-  بأن من الممكن أن يحول سيناريست موهوب عملا قصصيا متواضعا، ويعطيه من عنده أبعادا عظيمة ترفع من شأنه، بل أكثر الموضوعات بساطة وترددا؛ يمكن أن يرتفع إلى قمة النجاح السينمائي في يد كاتب سيناريو مدرب وموهوب. كما  أن أعظم الروايات كفيلة بأن يقتلها سينمائيا؛ كاتب سيناريو غير مدرب داخل الروايات.
وقد كان هذا الروائي يعاني أيضا من أن رواياته التي تحولت إلى مسلسلات تلفزيونية لم تحقق الأهمية التي كان يأملها ويتمناها. 
                                    
لكن الأهم في الموضوع هو تأثير السينما على فن كتابة الرواية. فقد إستفادت الرواية من التكنيك السينمائي في التقطيع، وأمتزاج اللقطات، والـ" فلاش باك " وغيرها من أساليب فنية، وأزعم أن تجربة نجيب محفوظ مع صناع السينما – صلاح أبو سيف والسيد بدير وغيرهما، في الفترة التي هجر فيها الرواية وأهتم أكثر بالسينما- أعطته مذاقا أكثر سلاسة وجمالا عندما عاد ثانية للرواية، فقبل تجربته هذه، كانت رواياته لا تخلو من ملل، عاد بعدها منذ اللص والكلاب بقدرة على إحكام الموضوع واستخدام تقنيات السينما الحديثة في الفلاش باك وتيار الوعي وغيرهما من تقنيات.

تم نسخ الرابط