الدماء تفضح شياطين الانس يوم الجمعة
الزمان :الجمعة 28 سبتمبر 2018
المكان : منطقة كوبري شوقي في حوش عيسى بالبحيرة
كان قرآن الجمعة يصدح من مسجد القرية الهادئة ..ألحان السماء انسابت في الشوارع بالسكينة ..والقلوب اطمأنت لذكر الله ..لكن على حافة القرية كانت الشياطين توسوس لاغواء أقرانها بالشر .
كان "رشاد" الشهير بشراء "التوك توك" المتحصل من جرائم سرقات.. يهدد صيده الجديد "محمد", إن لم يأت له ب " توك توك" عند الظهيرة سيقوم بتنفيذ أحكام قضائية صادرة ضدة بتهمة خيانة الأمانة بعد وقع له عدة إيصالات على بياض ضمانًا لدين ربوى اقترضه منه وعجز عن وفائه.
انطلق "محمد" متخبطا في الطرقات الهادئة منتهزا فرصة خلود الناس إلى الراحة واستعدادهم لصلاة الجمعة .. استوقف "توك توك" طالبا منه الذهاب إلى إحدى القرى وكاد السائق يرفض توصيله لاختلافهما على الأجرة لكنه وافق فى اللحظة الأخيرة وهو لا يعلم أنه المشوار الأخير وأنها اللحظات الأخيرة في حياته .
جلس محمد فى المقعد الخلفي بينما كان " سلامة" يسير بالتوك توك نحو الوجهة المتفق عليها .
بعد برهة عادل محمد السائق قائلا :دي صلاة الجمعة ؟..لماذا لاتصلي إذن ؟ .
سلامة: أعلم ذلك لكن " أكل العيش أعمل إيه ".. لكننى أنا أصلى الحمد لله ربما بعدما أقوم بتوصيلك "الحق" جزء من الصلاة.
محمد: أريد أن أسألك سؤال.
سلامة: تفضل.
محمد: ماذا لو طلب منك أحد أن تعطيه هذا التوك توك لأنه يحتاج إلىمال وإلا دخل السجن ولن يؤذيك بشىء..هل تقبل؟
سلامة: بالتأكيد أنت لا تتحدث على محمل الجد. بالتأكيد أنت تمزح لكن لو أردت إجابة على ذلك أقول لك أن أى الشخص الوحيد الذى يقبل ذلك وأن يتخلى عن ماله بهذه الطريقة هو المجنون فقط وأنا لست مجنون.
بعدها استمر سلامة فى السير وهو لا يبالى بكلمات محمد ولا يحسبها أنها كانت مقدمات لمأساة كبرى ستقع بعد دقائق .
محمد: (وقد اختلفت لهجته بعض الشىء فزادت حدة موجهًا كلامهإلى سلامة) قائلا:
لقد طرحت عليك سؤال وأنا سأعيد طرحه لكن بصورة أوضح:
أنا أريد هذا التوك توك لأننى فى أمس الحاجة إلى المال..أى مال..وأيًا كان مصدره ولن أؤذيك بشىء.
سلامة: ( بعد أن تملكه بعض الخوف من طريقة كلماته) ما الذىتقوله؟!
لقد قلت لك أنا لست مجنون ..أتفهم..! أنا لست مجنون..!
كان سلامة ينطق كلماته هذه وعيناه منصبتان على الطريق وعندئذ وحتى تلك اللحظة لم يحسب أن كلمات القاتل الذى يجلس بالخلف هى كلمات حقيقية.
بعدها بعدة ثوان لم يدر سلامة بشىء إلا بيدين تلتفان حول عنقه فاختل توازنه وأخذت المركبة تترنح بين يديه حتى استطاع أن يوقفها ثم حاول أن يقاوم إلا أن محمد قد أخرج السكين الذى أعده من أجل السرقة ثم ضربه ضربة واحدة استقرت فى كتفه الأيسر فانهمرت الدماء منه تجاهه وعندما رآها محمد كاد أن ينجو انتابته حالة هستيرية وأخذ يوالى المجنى عليه الطعنات وهو يصيح باكيًا:
" قلت لك اترك التوك توك ولن أؤذيك..قلت لك اترك التوك توك ولن أؤذيك..أنت السبب..أنت السبب
أخذ يرددها بصورة مفزعة مضطربة..! إن الجانى يحمل المجنى عليه المسؤولية ويلقى بأسباب الجرم على عاتقه.
إنها لحظات لا بد أن الشيطان وحده هو صانعها حيث تُقلب الآيات ويصير الجرم جهورًا فظًا بينما تنزوى البراءة خجلة حزينة آسفة.
كان محمد يصيح بأجواء المكان الخالى بتلك الصيحات فيتردد صداها بأجواء ظهيرة موحشة بينما كان سلامة يئن طالبًا الرحمة منقلب لم يعرفها.
لقد لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يسأل: لماذا؟!
كان هذا سؤالًا لم يتلق إجابته فقد ألقاه محمد خارج المركبة التى اغرقتها دمائه ثم فر هاربًا بها إلى طريق عكسى خاليًا من المارة حيثكانت خطبة الجمعة فى منتصفها..!
لقد ألقى بسلامة خارج التوك توك بينما أبت دمائه إلا أن تلاحق المجرم فقد كانت دماء سلامة دالة عليها.
لقد أنطقها الله لكى تقول الحقيقة.
فلقد علقت بملابسه وجسده وكل جزء فى مركبته حتى كلمة "المحبة " التى كتبها المجنى عليه بمركبته قد طالتها الدماء حسبما جاءت معاينة النيابة.
كيف تخير المجنى عليه كلمة " المحبة" لكى تكون علامة له ينقشهاداخل مركبته؟
هل كان يشعر ذات يوم أن دمائه البريئة ستمتزج بها؟!
ذهب محمد إلى الشيطان رشاد بالتوك توك الملتصقة به بدماء بدماءالمجنى عليه فابتاعه منه بألفين من الجنيهات..!
ثمن بخس..!
ثمن لا يساوى قطرة دماء واحدة من دماء المجنى عليه، بل لا يساوى ذرة واحدة من قطرة دم من دماء المجنى عليه وياله من ثمن بخس حيث يباع الدم هكذا رخيصًا مثل سافكه.
لم تمر سوى ساعات حتى تم القبض على محمد ورشاد وتم ضبط المركبة بدماء المجنى عليه واعترف محمد اعترافًا تفصيليًا بالجريمة وقام بتمثيلها فى مكان حدوثها كما حدثت تمامًا.
واثبت تقرير الطب الشرعى أن طعنات بالعمق والصدر والرئة والمعدة والكبد يمكن أن تحدث وفق التصور الذى جاء باعتراف المتهم ومنأداة مثل سكين. كما أثبت تقرير الطب الشرعى المعملى أن البصمة الوراثية للحمض النووى المستخلص من مسح دواسات المركبة البخارية " التوك توك" تطابقت مع البصمة الوراثية للحمض النووى المستخلص من عينة الدم على شاش من جثة المجنى عليه سلامة عبدالغنى.
حبل المشنقة
لقد اعترف محمد بالجريمة مثلما اعترف بطل رواية الجريمة والعقاببها.
لقد أراد كل منهما أن يقبل الأرض التى سفك دماء برئ فوقها ربما سامحته أو قبلت ندمه.
لم تجد المحكمة سبيل سوى الحكم بإعدام محمد شنقًا بينما فر رشاد من حبل المشنقة إذ نسبت النيابة له فقط تهمة إخفاء أشياء متحصلة من جريمة سرقة ونسخت لواقعته صورة مستقلة.
قالت المحكمة بعد أن انتهت من أسبابها وبعد أن غيرت وصف التهمة من جناية القتل العمد المقترن بجناية السرقة بالإكراه إلى جناية القتل العمد المرتبط بجنحة السرقة موجهة الكلمات إلى المتهم:
" إن المحكمة لا يمكن أن تغض الطرف عن تلك الخطورة الإجرامية وهذا الاستهتار بكل جلال الإنسان الذى كرمه الله عز وجل وحمله فى البر والبحر لكن المتهم أهانه وسفك دمه وأزهق روحه ثم تركه بلا حراك ولا أمل فى نجاة وذلك من أجل سرقة مركبة امتزجت بها دماء برىء فنطقت الدماء شاهد على سافكها وحتى كلمة المحبة التى دونها المجنى عليه بمركبته نطقت الدماء التى امتزجت بها لأن المحبة من الله وهى أقوى من كل شر.
السياسة العقابية
إن المحكمة مع إيمانها الكامل بأن السياسة العقابية الحديثة لا تعتمد فقط على إنزال العقاب بمرتكب الجرم وإنها رغم علمها التام بهذا الصراع الذى استبد بنفس القاتل واظلم بصيرته إلا أنها نظرت أيضًا إلى شاب لم يتجاوز الثلاثين.. كان يسعى وراء رزقه هذا السعى الخشن..يكاد يطعم زوجه وصغيرين ذاقا طعم اليتم الأليم وهما فى هذه السن وقد ترملت امرأة وتبددت حياتها الشاقة إلى شقاء أعظم وأب مات حسرة على ولده وأم تموت كل يوم على فلذة كبدها.
إن الوجه الأمثل للرحمة حقًا يكمن فى الصفح لكن هناك وجه آخر للرحمة يكمن فى القصاص وحقًا إذ يقول رب العزة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة حضوريًا بمعاقبة محمد.....بالإعدام شنقًا وإلزامه بالمصاريف الجنائية وبأن يؤدى للمدعيين بالحق المدنى مبلغ...على سبيل التعويض المدنى المؤقت وألزمته المحكمة بمصاريف الدعوىالمدنية ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
رُفعت الجلسة.
صدر هذا الحكم بالجلسة العلانية فى السابع من شهر أغسطس عام٢٠١٩.