الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

تعد قضية التصدر للفتيا من القضايا بالغة الخطورة، والتي تشغل بال الكثيرين،  وتؤرق  مضاجعهم في ظل حاجة المواطنين لمعرفة الأحكام الشرعية المرتبطة بأمور حياتهم، ووجود عدد كبير من المتصدين للفتيا دون التقيد بضوابطها وأحكامها، ودونما إلمام بقواعد الفتيا وشروطها المعتبرة.
وقد أولت شريعتنا الغراء اهتماما بالغا بأمر الفتيا، ووضعت لها ضوابط ومعايير تدفعها نحو التقيد والانضباط بضوابط الشرع وقواعده، بعيدا عن الفتاوي الهدامة والفتاوي المغرضة، كما أولتها المؤسسات الدينية الرسمية جل اهتمامها لدورها الرائد في رفع الوعي الديني، وتحقيق الأمن الفكري والمجتمعي لدي قطاعات الجماهير المختلفة.

وفي ظل التوجه السائد لدي الجماهير نحو  شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي برزت أهمية "الفتاوي الإلكترونية" التي وفرت فرصا أكبر للجمهور لعرض المسائل الخاصة بهم، واستيضاح حكمها الشرعي، وربط المفتين بجمهور المستفتين بشكل سريع وفعال، والاطلاع علي الفتاوي المختلفة، ومعرفة الآراء الفقهية المتعلقة ببعض الأحكام الشرعية، وانتشار الفتاوي المبنية علي الفقه المقارن بعيدا عن التعصب المذهبي، وإتاحة الفرصة للمتصدر للفتيا للاطلاع علي تفاصيل الفتوي المطروحة، والتروي في الفتيا مما يثقل الوزن الفقهي للفتاوي، مع إمكانية تعديل الفتوي خلال دقائق معدودة في حال بيان عدم دقتها، مع القدرة الفائقة للمواقع والمنصات الإفتائية  في إتاحة نشر الفتاوي علي قطاع عريض من الجمهور عبر وسائل وأدوات تفاعلية متعددة..
وعلي الرغم من أهمية "الفتاوي الإلكترونية" إلا إن  قيام غير المختصين وغير المؤهلين للفتيا بنشر فتاواهم _غير المنضبطة، والموجهة أحيانا_ عبر الواقع الافتراضي قد أدي إلي ظهور حالة من القلق والفوضي وإثارة البلبلة والتشتت لدي الجماهير، في ظل انتشار آلاف الفتاوي المتعارضة والمتضاربة؛ لتنتشر حالة من الفوضي الرقمية العارمة في نشر الفتاوي وتداولها.
ومن أجل مواكبة التحول الرقمي، وتماشيا مع تقنيات العصر وأدواته، وتجاوبا مع تحول الجماهير نحو مواقع التواصل الاجتماعي، ومواجهة لهذه الظاهرة، وضبطا لمسار الإفتاء قامت  المؤسسات الدينية الرسمية بتدشين  بعض المواقع الإلكترنية ، وإنشاء بعض الصفحات المتخصصة  في أمر الفتيا عبر شبكة الإنترنت استجابة للواقع الافتراضي المعيش، ومجابهة للفتاوي الشاذة والمضللة التي تفت في عضد المجتمع، وتقوض الاستقرار المجتمعي والأمن الفكري.
وقد استطاع الجمهور طرح فتواه عبر هذه الصفحات والمنصات الرقمية، وتلقي الإجابة عنها دون معاناة، عبر خدمات تفاعلية وآنية تتيح للجماهير الآراء الفقهية المعتبرة في القضايا والمشكلات الحياتية التي تواجه الجمهور، والتي يحتاج لمعرفة الحكم الشرعي الذي يوجهها نحو مسارها الصحيح.
ورغم هذه الجهود المخلصة فإن هذه ظاهرة  فوضي الفتاوي الإلكترونية تنامت وانتشرت واستفحل خطرها مما يجعلنا في أمس الحاجة إلي وضع رؤية متكاملة لمجابهتها ومواجهتها، ومحاولة الحد من تداعياتها وآثارها.
وللتغلب علي هذه الظاهرة فإن الأمر يتطلب وضع ضوابط ومعايير لمهنة الفتيا تعتمد علي منهجية علمية منضبطة تحقق المقاصد الشرعية، وتلتزم المنهج العلمي في فهم النصوص، والتحليل الفقهي والتشريعي لها، وتنزيل وتطبيق الأحكام الشرعية علي الواقع، وصياغة الفتاوي المؤصلة التي يبرز فيها تحقيق المناطات، واعتبار المآلات للنوازل والمستجدات، ومواجهة فتاوي التحريم والتبديع والتشريك التي يروج لها البعض عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وتبني القضايا الأكثر أهمية للجمهور، وتطوير مضمون طرح هذه القضايا ليتناسب مع متطلبات العصر، وتحري الدقة في نشر الفتاوي.
ويستلزم الأمر أيضا وضع قواعد وآليات ومعايير حاكمة للفتاوي الإلكترونية، والاهتمام بنشر الوعي الديني لدي الجمهور ليؤدي دوره في مواجهة فوضي الفتاوي الإلكترونية، وتعريفه بالحسابات الرسمية المنوطة بالفتوي بالمنصات الرقمية للمؤسسات الدينية الرسمية، وأبرز الخدمات الإفتائية التي تقدمها، وتعزيز قدرات المفتين الإلكترونية، والارتقاء بمدركاتهم التكنولوجية لمواكبة التقنيات الرقمية، وإكسابهم مهارات التواصل الرقمي مع المستفتين، والسعي الحثيث نحو إنشاء موقع إلكتروني موحد للفتاوي علي المستويين العربي والإسلامي، وإنشاء منصة إعلامية إفتائية عالمية بلغات متعددة، وتحقيق التكامل بين المؤسسات الإعلامية والمؤسسات الإفتائية، وتعزيز الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في صناعة الفتوي الإلكترونية لإغلاق الباب أمام غير المختصين في مجال الفتيا، وتفويت الفرصة أمام المغرضين والمتربصين، ومواكبة الواقع الافتراضي الذي أصبح واقعا فرض نفسه علي الجميع.

تم نسخ الرابط