منذ أن قرأت للمرة الأولى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الراحل الطيب صالح عندما كنت في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، وأنا مشغول بحكايات وعلاقات ومصير أبطالها، خاصة بطلها الأول مصطفى سعيد، وبطلها الثاني أستاذ الأدب الإنجليزي ورفيقه في المرحلة الأخيرة من حياته الذي روى لنا قصته.
وفي حقيقة الأمر، فإن سر اهتمامي بهما أنهما جسدا عندي رغم اختلاف دوافعهما وسماتهما الشخصية، أفضل نموذج للمثقف النخبوي المغترب عن سياقه ومجتمعه، المثقف المعطوب من الداخل، الذي لابد أن تنتهي حياته بالانتحار المادي أو المعنوي.
ومصطفي سعيد هو الطفل السوداني الذي تلقفته العين الفاحصة للمستعمر الإنجليزي في السودان، ونقلته للدراسة في القاهرة، ومنها إلى أعظم الجامعات البريطانية، ليتخصص في الاقتصاد، ويصبح أكاديمياً مرموقاً في الأوساط العلمية الإنجليزية، ونجماً لامعاً في المجتمع البريطاني بنزواته العاطفية والجنسية التي اُشتهر بها، وكان يجد فيها نوعاً من الانتصار الجنسي على المستعمر الغربي وحضارته ونسائه.
والذي يعود بعد ذلك من بريطانيا إلى السودان "عودة المهزوم" بعد أن اتهامه بقتل زوجته الإنجليزية أو على الأقل بدفعها للانتحار، وبسبب ذلك سُجن لعدة سنوات، ليخسر بالسجن كل شيء صنعه في حياته، ويلفظه ويحتقره المجتمع الإنجليزي الذي احتفى به في الماضي، ولا يبقى له بعد موسم هجرته إلى الشمال إلا صقيعه.
ولهذا يُقرر مصطفى سعيد بعد خروجه من السجن العودة إلى دفء السودان وناسه، وفي السودان نجده يعيش في القرية التي شهدت ميلاده ونشأته، ويتزوج امرأة سودانية بسيطة، ويعيش حياة عادية، دون أن يعلم المحيطين به شيئًا عن حياته السابقة وصخبها وانتصارتها وهزائمها.
ثم ينتهي الحال به بعد فترة من العيش في السودان إلى إلقاء نفسه في مجرى النيل، ليتخلص من قلق روحه وعقله بعد أن فشل في حل تناقضات حياته، وفشل في التصالح مع ماضيه، وفشل في أن يكون إضافة حقيقية لمجتمعه وناسه.
وتلك في ظني نهاية طبيعية تتسق مع حياة وخيارات مصطفى سعيد وأزمته هويته التي ظل يهرب منها دائماً للأمام، بعد أن عاش مغتربًا يحاول أن يصنع لنفسه هوية ملفقة مختلقة، وأن يصنع انتصارات عبثية في معارك جنسية متوهمة مع الآخر الغربي.
ولهذا فإن مصطفى سعيد هو أفضل نموذج للمثقف المغُترب عن مجتمعه وناسه، المثقف غير المنتمي إلا لنزواته وأوهامه النخبوية ومشروعه الشخصي، المثقف الذي يُعادي في الباطن الحضارة الغربية والمستعمر الأجنبي، وهو في واقع الأمر يفتقد لأي جذور تربطه بأرضه ومجتمعه وتاريخه وثقافته وهويته، وصنيعة لهذا المستعمر الذي يرتبط به ارتباطاً عضوياً.
ولهذا فمن الطبيعي أن تنتهي حياته بالانتحار، ليكون انتحاره نهاية رمزية عميقة الدلالة على مصير نموذجه الإنساني والفكري في حياتنا وبلادنا.
لكن العجيب والمثير للتأمل أن الانتحار كان هو ذاته خيار بطل الرواية الثاني الذي اقترب من مصطفى سعيد بعد عودته النهائية للسودان، وروى لنا حكايته ؛ ومنبع العجب أن هذا البطل كان على النقيض التام من مصطفى سعيد في شخصيته وخياراته ودوافعه، ولأنه شخص وطني منتمي معتز بأرضه وناسه وتاريخه ومجتمعه.
وقد درس بطلنا الثاني الأدب الإنجليزي في بريطانيا، وحصل على الدكتوراه من أعرق جامعاتها، ثم عاد بكامل إرادته إلى بلاده، وهو مفعم بالأمل والحلم في أن يكون بعودته ودوره الذي رسمه لنفسه، إضافة لمجتمعه، وقوة دافعه لوطنه في معركته المصيرية للتغيير والإصلاح، لكنه يفشل في تحقيق ذلك، ويستنزفه سياقه المهني والمجتمعي والسياسي المشوه، ولهذا يُقرر الانسحاب بعد طول معاناة وفشل في التأقلم مع واقعه، ويترك نفسه في لحظة ضعف ويأس لمياه النهر تحمله لأعماقها وهو في حالة بين اليقظة والحلم.
لكني بعد طول تأمل وجدت أن انتحار بطلي رواية "موسم الهجرة للشمال"، هو مصير مقبولة إنسانياً ودرامياً، ولا مجال للعجب فيه رغم الفارق الكبير بين شخصياتهما وأهدافهما وفلسفتهما في الحياة؛ لأن كل منهما كان معطوبا من الداخل ولديه خلل كبير في علاقته بواقعه ومجتمعه وناسه، ولهذا كانت عودتهما للسودان بلا فائدة؛ لأن عودة الأول "مصطفى سعيد" هي عودة المهزوم الذي فقد نفسه وهويته قبل أن يفقد حضوره ودوره الإيجابي المرجو منه. وعودة البطل الثاني "الراوي" هي "عودة الواهم" الذي لم يُحسن قراءة وفهم الواقع الذي حاول تغييره وإصلاحه، ولهذا إنهار نفسياً أمامه، وضعفت إرادته، واختار الموت هروباً من كل شيء.
والمجتمع لا يمكن أن يتغير ويتقدم نحو الأفضل بمثل تلك النماذج من النخبة الثقافية والسياسية غير المنتمية المغتربة عن ناسها وسياقها، والمنتمية المتوهمة الهشة غير الواعية بسياقها ومجتمعها وتحديات واقعها وعصرها، فكلاهما وجهان لعملة واحدة عنوانها الرئيس هو "الفشل".
- نقلا عن مصراوي .