الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

ربما لم يعرف قريش أحد كما عرغها عمر بن الخطاب .
نشأ الرجل في ربوعها لكنه لم يقترب من دواخلها التي عرفها . أحكم قبضته عليها دون أن تحكم هي قبضتها عليه رغم سطوتها التاريخية . 
يمكن وصف عمر بن الخطاب بهذا المنطق أنه الرجل الذى نشأ في قريش لكنه لم يكن منها . 
كانت طريقة اسلامه بادرة مبكرة يتضح منها تفرد شخصية الرجل .
أسلم في لحظة إيمانية فريدة بعد أن ناصب الرسول العداء .
كان إسلاماً لم تصنعه مقدمات كبرى وكأن كل المقدمات قد تجمعت فجأ ثم هبطت على قلب الرجل بمنزل فاطمة أخته وقد جاء لسلب حياتها عندما علم باسلامها فإذا بشيء يسلبه هو من الجاهلية إلى الإيمان . من الغضب إلى السكينة ولم يلبث أن أعلن إسلامه للرسول أيضاً وسط دهشة الجميع وعدم تصديقهم .
ثم جهر به في التو واللحظة لقادة قريش وكل ذلك وقع دون مقدمات . 
كان عمر يعرف قريش وسادتها فأراد أن يصيب هذه السيادة بشىء من الانكسار وقد وقع خبر إسلامه عليهم كالصاعقة .
كانوا يعلمون أن إسلام عمر بن الخطاب يشكل نقطة فارقة في الحرب الدائرة بين الإيمان والكفر . كانوا يعلمون أن إسلام عمر سيفتت من قواهم ويضيف قوة عظمى لعدوهم . 
كانت قريش تعلم هذا تماماً وربما تلمست أن مستقبل تلك القبيلة التي استأثرت بمواطن القوة بين العرب بات موضع شك كلما تصاعد نجم هذا المعتنق العظيم للإسلام . 
عندما أخذ عمر قراره بالهجرة إلى المدينة أخذه جهراً ثم لم ينفذه على مرأى ومسمع قادة قريش فقط ، بل كان ذلك تحت وطأة السلاح .
صاح فيهم:
"فمن أراد أن تثكله أمه، وترمل زوجته، وييتم ولده، فليخرج للقائى خارج الحرم أو ليعترض طريقي و طريق من معى" ووصل عمر بن الخطاب ومن معه يثرب تحت بصر قريش . كان كل منهما يعرف الآخر .
عمر يعرف قريش وقريش تعرفه .
وكان كل منهما يرتاب في الآخر .
عمر يرتاب في قريش وقريش ترتابه . 
يتحدث دكتور طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" عن هذا الأمر بقوله:
"فعمر لم يخف الفتنة من أحد كما خافها من قريش ، ولم يخف الفتنة على أحد كما خافها على قريش: لأنه كان يعرف هذا الحى من العرب حق المعرفة وكان يعرف بنوع خاص مواطن القوة القوية فيه كما كان يعرف مواطن الضعف الضعيف . فقد كانت قريش التي نشأ فيها عمر قبل أن تدعى إلى الاسلام ممتازة بالقوة والضعف جميعاً . وكانت قوتها من مكانها حول البيت واستئثارها بمناسك الحج تقيمها للعرب وتتسلط عليهم بها وتتحكم عليهم فيها وترى لنفسها امتيازاً لا يشاركها فيه غيرها من الناس ، فهى تزعم لنفسها ارستقراطية متفوقة وقد اعترف العرب بهذه الارستقراطية في جملتهم لا لتفوقها في الحرب ولا لتسلطها بقوة السيف، فلم تكن قريش قبيلة محاربة بل لاستئثارها بأمر الدين وامتيازها في الجليل والخطير منه." 
يتحدث الإمام الطبري عن علاقة عمر بقريش في مؤلف تاريخ الطبري في أحداث سنة خمس وثلاثين وهو مشار إليه في المرجع السابق ( الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين) بالآتي:
"لم يمت عمر رضى الله عنه حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم وقال: "إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد . فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين. ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة فيقول: قد كان لك في غزوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم ما يبلغك ، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك . فلما ولى عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس فكان أحب إليهم من عمر"
لم يقتصر الأمر عند احتباس أشخاص  قريش في المدينة وقت خلافة عمر بل امتد وهذا ما يتعلق بصلب هذا الحديث إلى احتباس رءوس أموالهم أيضاً .
لقد كانت لهم تجارة واسعة بين الحجاز والأقاليم الأخرى لكنهم لم يستطيعوا أو لم يريدوا أن يوظفوا هذا المال لخدمة الأعمال الكبرى حتى تحول المال في أيديهم إلى ما يشبه قوة معطلة عن وظيفتها الاجتماعية يتفرد بها مجموعة من الأثرياء دون غيرهم من فقراء المسلمين . 
يصف دكتور طه حسين هذا الأمر بالآتي:
"لم يمنع عمر إذن قريشاً من أن تكسب المال فلم يكن له إلى ذلك سبيل ، ولكنه استيقن أن الأغنياء يكسبون من المال أكثر مما ينبغي لهم أن يكسبوا  لذاك قال في آخر حياته: "لو استقبلت من أمري ما استدرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء"
من أجل ذلك وغيره لم تحب قريش عمراً كما أحبت عثمان وكان طبيعياً أن الفتنة لم تقم في ظل خلافة عمر بل قامت في ظل خلافة عثمان .
لقد كانت الفننة عربية وكان مبعثها الأساسي "من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان"
كما وصغها الدكتور طه حسين . 
قبيل غزوة بدر (أو معركة بدر كما نرى مسماها الصحيح) استطاع
أبو سفيان أن يأخذ طريق ساحل البحر- بعيداً عن طريق القوافل المعهود- وتمكن بدهائه أن ينجو بالقافلة من أيدي المسلمين، ثم أرسل إلى قريش أن يرجعوا فقد نجا، وارتاح الكثير من زعماء قريش لنجاة القافلة لأنهم لا يريدون الدخول في حرب مع إخوانهم وأبناء عمومتهم، ولكن أبا جهل رفض وأراد أن يخرج ليرهب المسلمين. 
كان كل ما يهم أبو سفيان كرجل مال هو أن ينجو بقافلته ليس إلا وعندما استطاع كأنه خاطب قريش بقوله:
فأما قافلتكم فقد نجوت بها وأما حربكم فلا شأن لي بها . 
كان عمر يعرف أبا سفيان تمام المعرفة . إنه واحد من أبرز سادة قريش الذين حاربوا الدين الجديد ولم يأخذ قرار الإسلام بالوجدان بل كان بالعقل والمنطق وحسابات الكسب والخسارة .
أعطاه الرسول شرف كيير بأن جعل بيته وقت فتح مكة أحد الأماكن الآمنة لكل من يلجأ إليها:
"ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن"
لا أعلم كيف استقبل عمر هذا العطاء العظيم من النبى صلى الله عليه وسلم لكنني ربما أتخيل أنه تفهم تماماً أن الأمر لا يخرج عن دائرة السياسة في مفهومها النظيف .
أراد النبى أن يكون فتح مكة رمزاً للسلام والصفح معاً دون أن تراق نقطة دم واحدة وهو ما تحقق .
لكن عمر ظل يرتاب في قريش تلك التي لم يكن سادتها إلا في متأخرة من دخلوا الإسلام على عكس الذين هاجروا مع النبى وذاقوا من أجل الدعوة قسوة التهجير القسري. تلك الدعوة التي نادت بالحرية والعدل والمساواة بين البشر أجمعين ولم تضع معياراً للتفاضل إلا على أساس التقوى . 
في ولاية عمر لم يذكر التاريخ أن أبي سفيان كان من المقربين إليه .
ولم يكن من أصحاب الحظوة إليه . لم ينظر إلى مكانته السابقة سواء السياسية أو المالية وكان أبو سفيان يعرف ذلك جيداً هو وقادة قريش الذين دخلوا الإسلام متأخراً بعدما بدت الصورة واضحة في تفوق الدعوة الجديدة . 
يذكر التاريخ في واقعة "بلال ابن الحارث" أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقطعه أرضاً فقطعها له طويلة عريضة ، فلما ولي عمر قال له: يا بلال إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله عليه السلام لم يكن يمنع شيئاً يسأله وأنت لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، فقال: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه وما لم تطق وما لم تقوى عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين . 
ربما في هذا السياق أيضاً رفض على ابنه عبد الله أن تتكدس بين يديه ثروة من تجارة الإبل خشية أشياء كثيرة من بينها تكدس رأس المال دون نفع باقي المسلمين . 
وهنا نطرح السؤال الأهم في هذا الحديث .
هل كان يدور في خلد عمر شيئاً عما اكتشفه القرن الثامن "من نظرية فائض القيمة؟" 
سنة ١٨٥٩ أفصح "كارل ماركس"عن نظريته "فائض القيمة" في مقال عنوانه: "نقد الاقتصاد السياسي" ومقتضى تلك النظرية حسبما جاء في مؤلف "كتب غيرت وجه العالم" لمؤلفه "روبرت ب داونز": "أن العامل الذي لا مال عنده لا يملك سلعة غير سلعة عمله الخاص وهو مضطر لبيعها ليتحاشى الجوع وبمقتضى النظام الحالي ( وقت خروج هذه النظرية إلى حيز الوجود) يتقدم إلى صاحب العمل فيشتريها منه بأقل سعر ممكن . ونرى من ذلك أن القيمة الحقيقية لسلعة العمل أعلى دائماً من الأجر الذي يتقاضاه العامل" 
ثم يضرب المؤلف مثلاً توضيحياً لذلك بالقول:
"فلنفرض مثلاً أن عاملاً يتقاضى أربعة شلنات في اليوم يفرض عليه أن يشتغل مقابلها عشر ساعات بدلاً من ست ساعات وهي المدة التي تساوى أجر أربعة شلنات وبذلك يكون صاحب العمل قد سرق أربع ساعات"
وهو ما يمثل فائض القيمة حسب تصور هذه النظرية التي فاقت شهرة واسعة بعد أن وضعها كارل ماركس ضمن كتابه الأشهر "رأس المال" 
إن تكديس وتراكم الثروة في يد البعض هو أشر ما أصاب هذا العالم لأنه يفقد الثروة أهم مقومات وجودها وهو الوظيفة الاجتماعية وباعتبار أن الإسلام يرى أن المال في النهاية هو مال الله.
ولم يذكر أن عمر قد سمح بذلك أبداً حتى أنه يسترد أرضاً أعطاها الرسول لصحابى من أجل استصلاحها لأن من أعطيت له أعجزه عظم مساحتها عن إصلاحها فخشى أن تمثل قيمة مهدرة . 
في عام الرمادة الذي جفت فيه الأرض وقد لحق به تفشي طاعون "عمواس" الذي حصد الأرواح (وقد تناولنا ذلك تفصيلاً من قبل) أعطى عمر بن الخطاب نموذجاً فريداً في كيفية الخروج من أزمة كادت تقضي على الدولة التي أُسندت له قيادتها .
قدم عمر بن الخطاب كل ما يملك من حلول اقتصادية واجتماعية وسياسية وصحية ومن بينها تعطيل حد السرقة وكان آخر ما صنعه هو صلاة الاستسقاء . 
كانت الحلول الاقتصادية التي صنعها مبهرة وكأنه قد قرأ كل ما كتب عن الاقتصاد من نظريات .
كان شىء واحد يجمعها هو ألا تكون الثروة معطلة عن دورها وألا تكدس بيد حفنة قليلة من الناس دون غيرهم . 
نعود إلى نهاية القرن التاسع عشر مرة أخرى مع "كارل ماركس" وهو يعلن شعاراً لا نجد ما يحملنا على أن نختلف معه اختلافاً جذرياً على الأقل . يقول:
"الأخذ من كل فرد بحسب قدراته إلى كل فرد حسب احتياجاته"
ربما أن عمر بن الخطاب قد ابتدع تلك النظرية لا سيما في أعوام الأزمات كما ذكرنا . 
لكننا نختلف مع نظرية "كارل ماركس" بشأن التفسير الاقتصادي للتاريخ أو المادية التاريخية والتي تقول:
" إن تاريخ المجتمع الحاضر كله ما هو إلا تاريخ نزاع بين الطبقات.
فالعبيد والأحرار والدهماء ورجال الطبقة العليا والسيد والتابع . والمعلم والصانع . وفي الجملة كل هؤلاء وقف الواحد منهم ضد الآخر في حرب لا هوادة فيها" 
نقول أن سياسة عمر الاقتصادية لم تكن تتبنى تلك النظرية أبداً.

الاشتراكية 


ربما إن جاز القول كانت رؤيته تعبر وبمفهوم العصر عن رؤية الإشتراكية في أسمى معانيها .
كان الرجل يخشى أن تتكدس الثروة في يد أقلية دون باقي الناس .
كان يخشى أن تتسع الهوة بين قيمة العمل والأجر المقابل لها بما يتحقق معه "فائض القيمة" بالمعنى الذي أوضحناه .
لم يشأ الرجل أن يتبنى نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ أو المادية التاريخية لأنه لم يكن بعصره صراع بين الطبقات كمان يمكن أن تقوده قريش بامتيازها السابق أو بأرستقرياتها بتعيير الدكتور طه حسين .
كان بين يدي عمر قيمة أعظم مما سبق كله رسم بها خطواته الاقتصادية والاجتماعية وأقام بها دولته وأنشأ منها نظريته .
فقد كان بين يديه الآية السابعة من سورة الحشر التي تقول:
"كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ .."

تم نسخ الرابط