إن من أخطر التحديات التي يواجهها الأزهر على مستوى مؤسساته التعليمية، هو محاولة تذويب هويته، بحيث لا يكون هناك فرق بين الشخصية الأزهرية وغيرها من الشخصيات الأخرى في الجهات المناظرة، وإذا كانت ملامح أي شخصية تتحدد بأمرين، المظهر والمخبر، والمظهر يُعنى به: الشكل الذي تظهر به الشخصية في المجتمع والذي تتمايز به عن غيرها، ومن أهم ما يميز الشكل الزي الذي ترتديه الشخصية، فنحن نعرف ضابط الشرطه من زيه، وكذلك ضابط القوات المسلحة وغيرهما ممن يمثلون جهات ذات حيثية، أما المَخْبَر فيعني به: القسمات النفسية، والسمات الأخلاقية، والمعارف والثقافات المكونة لعقل ووجدان تلك الشخصية.
ومن المعروف في مجتمعنا منذ نشأة الأزهر، أن للمنتسبين إليه زيهم الخاص بهم والذي يميزهم عن غيرهم من طبقات المجتمع، وهو (العمامة والكاكولا)، فالناس إذا رأوا شخصا يرتدي هذا الزي عرفوا أنه أزهري فيعظمونه ويجلونه، ويسألونه في أمور دينهم، وظل هذا الزي مع مرور السنين والأيام سيمة كل أزهري، يحرص على ارتدائه ويفتخر به، وأذكر أننا حينما جهَّزنا شيخ الكُتَّاب للالتحاق بالأزهر، كان مطلبه من أولياء أمورنا أن يجهزوا لنا الزي الأزهري، ولما التحقنا بالسنة الأولى الإعدادية ارتديناه حتى التحاقنا بالكلية، وفي الكلية وجدنا أن الأمر صار مختلفا فالقليل من يرتديه، فتخلينا عنه - للأسف الشديد- اتباعا للأغلبية، وبهذا لم يعد لنا خصوصية تميز بيننا وبين أي طالب في أي جامعة أخرى، وإن كان قد بقي فينا شيء من مظاهر الهوية الأزهرية، فقد كنا نعتز بأزهريتنا ولا يمكن أن نتنكر لها تحت أي ظرف من الظروف، كما كنا نحافظ على وقارنا وجلالنا فلا نفعل فعلا لا يليق بنا وإن كان يليق بغيرنا، ولا نجاري الموضة وبخاصة الوافدة إلينا في لباسنا، فكان كل هذا ينطق للمجتمع بأزهريتنا وإن لم نشرف بارتداء زي الأزهر.
ولكن مع مرور الوقت وظهور تقاليع من الموضة الغريبة على مجتمعنا، مثل ارتداء البنطال المقطع، أو الساقط من الخلف أو الأمام، وحلقة القَزْع التي نهى عنها رسول الله' صلى الله عليه وسلم- ولبس الحظاظات والأساور،التي أسميهما أنا ( بالغوايش) والسلاسل، وجدنا أن هذه التقاليع القميئة التي تجعل مظهر الشاب أشبه بمظهر البنت، أخذت تنتقل إلى ابن الأزهر، بل إننا نجد كثيرا منهم أحرص على الالتزام بهذه التقليعات ممن اخترعوها في بلادهم، وأصبحنا وأصبح أبناء المجتمع معنا لا يفرقون بين الأزهري الذي عرفوه في سمته ووقاره وبين هؤلاء الذين ذابت هويتهم، ورحلت عنهم ملامح الجلال والوقار، وعندما توليت عمادة كلية الإعلام، وكان كثير من طلابها يحرصون على ارتداء تلك التقاليع الفاسدة، ظنا منهم أن طبيعة تخصصهم تعطيهم الحرية في هذا الأمر، ولكن رأيت عليَّ أن أعيدهم إلى سمتهم الأزهري، وأخذت الموضوع بالتدريج من خلال التوجيه والنصيحة في لقاءات متتابعة لي معهم، كما طلبت من الأساتذة أن يقوموا بنفس المهمة في محاضراتهم، كما علقت (بنرات) ولوحات إرشادية حددت لهم فيها ما هو مرفوض ارتداؤه داخل حرم الكلية، وقد استجاب كثير من الطلاب لهذه التوجيهات عن قناعة، ومن بقوا على حالهم أنذرتهم من خلال إعلانات بالكلية بأنهم سيحرمون من دخول الامتحان، فاستجابوا جميعا إلا نفر قليل، فلما كان أول يوم في الامتحان شدَّدنا عليهم في الدخول، ثم سمحنا لهم بعد أن أخذنا عليهم إقرارت بأن من سيأتي في امتحان اليوم القادم لن يدخله وسيحول لمجلس تأديب لمخالفته للنظام العام في الكلية، فاستجاب الجميع، وأصبحت كلية الإعلام لمدة ثلاثة أعوام شبه نظيفة من هذا الوباء الذي عمَّ وطَمَّ، ومن الأمانة أن هذا الأمر لم أستطع تحقيقه إلا بدعم من إدارة الجامعة ممثلة في رئيسها السابق الأستاذ الدكتور محمد المحرصاوي ، والسادة النواب الذين شجعوني وشدوا على يدي، ثم عندما جئت عميدا لكلية اللغة العربية فعلت نفس الأمر، واستجاب الطلاب، بل كثير منهم ومن أولياء أمورهم كانوا يأتون إلى مكتبي ليشكروني على هذا الأمر.
وأرى من وجهة نظري أن هذا الأمر شديد الخطورة بالنسبة للمؤسسة (قطاع المعاهد والجامعة) ويجب على المسئولين عند التحاق أي طالب بالأزهر أن يؤخذ على ولي أمره إقرار بالتزام ابنه أو ابنته بالسمت الأزهري شكلا ومضمونا، وكذلك الأمر عند التحاق الطالب بالجامعة، وأن تأخذ إدارات الكليات( العمداء والوكلاء) الأمر بمأخذ الجد، وأن تكون لديهم شجاعة المواجهة بحكمة وبصيرة، كما أن على الأساتذة دورا مهما، فهم يوميا يلتقون الطلاب وكلمتهم نافذة عليهم،
ولا مانع من تشجيع الجامعة للطلاب بالعودة للزي الأزهري من خلال إعطاء كل طالب يرغب في ارتدائه عمامة وكاكولا للصيف، وأخرى للشتاء كل عام كما تفعل وزراة الأوقاف مع الخطباء والوعاظ، ويكون ذلك من خلال صندوق تكافل الطلاب حتى لا يكلف ذلك ميزانية الجامعة شيئا.
إنه لا بد وأن تتضافر جهودنا جميعا حتى يعود طلاب الأزهر إلى سابق عهدهم شكلا ومضمونا؛ لأنهم إذا كانوا طلابا اليوم فغدا سيصبحون أصحاب رسالة في المجتمع يؤدونها من خلال المنابر، أو على منصات الوعظ.
إن علينا واجبا أن نقدمهم للمجتمع بعد أن تزيوا بزي الوقار والاحترام، ليكسبوا احترامه وتقديره.