المُسْرِفُ سفيه مِتْلاف، يضيِّعُ في شهواته زُبدة ماله، فلا يبقى في يديْه ما يُقيم به أوَدَ المُعْوِزين، بلْهَ ما يدفع به عن نفسه، وأهله شبح الخصاصة فيما تكون حاجتُهم إليه أشد.
لذا حُمِد الاعتدال في الإنفاق حتى مع الوفْرة، وذُمَّ طرفيه وهما: الشح والتبذير.
الشحُّ بالمال ومنعُه في مواطن البذل مفسدة، وكذلك تفريق المال في غير وجهه.
فالشح مفسدة لصاحب المال ولمن يعول لأنه يجُرُّ إليه كراهيتَهم إياه، وكراهيته إياهم .
والتبذير مفسدة لصاحب المال وعشيرته لأنه ينفق مالَه في مصارف غير جديرة بالصرف.
والوسط المحمود بينهما: وضع المال في مواضعه وهو الحد الواقع بين لا ولا في قوله تعالى :" وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا" سورة الإسراء/29
فبينت الآية ـ في صورة حسية ـ أن المحمود في الإنفاق هو: الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، وتلك حكمة عظيمة تجعل الأوساط هي حدود المحامد بين المذام من كل حقيقة لها طرفان.
وذلك بتمثيل الشحيح وقد جعل يده مقيدة إلى عنقه بغُلٍّ، وهو الحديدة التي تجمع يد الأَسير إِلى عُنقه، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدراً للبذل والعطاء ، وتخيُّل بَسطها كل البسط تبذيرا وإسرافا.
يأتي ذلك التوجيه لأن المال يبذله الإنسانُ عوضا عما يحتاج إليه في حياته متدرجا من الضروريات إلى الحاجِيَّات، ثم التحسينات.
بحيث يكون من الاعتدال: إنفاقُ المال على هذا الترتيب، ومن التبذير تجاوز الضروريات والإنفاق في التحسينات خاصة مع أصحاب الأموال ذات الكفاف.
وقد جاء النهي عن التبذير صراحة في سياق الحض على إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم في قوله تعالى :" وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا (26) إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا" سورة الإسراء/26: 27
فكان في الانكفاف عن التبذير عون على آداء الحقوق.
مع التنبيه على أن النهي عن التبذير ليس متعلقا بالأمر بإيتاء ذوي الحقوق حقوقهم ؛ لأن بذل المال في حقه، ليس تبذيرا ولو زاد عن الحق.
وإنفاقه في الفساد تبذيرٌ ولو كان المُنفَق قليلا .
كما أن إنفاقَه في المباح من مأكل ومشرب وملبس يكون تبذيرا إذا بلغ حد السَّرَف.
والمقصد الأسمى من النهي عن التبذير: حفظ المال ؛ لما قد يطرأ على الإنسان مما تكون حاجته إليه أشد، فيصون نفسه ممن قد يستغل شدة حاجته، فيبتزُّه، ويُدخلَه تحت نِيرِ سلطانه .
وقد علل القرآن ذلك النهي بجعل " ٱلۡمُبَذِّرِينَ" أي: الذين عُرِفوا بهذه الصفة إخوانا للشياطين؛ لأنهم يتابعونهم متابعةَ الأخ أخاه، مؤكدا ذلك في قوله:" إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ"، وكفى بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحا.
وسبب تلك الأخوة: أن التبذير إنما يدعو إليه الشيطان، لأنه إما إنفاقٌ في الفساد، أو إسرافٌ يستنزف المال في السفاسف والشهوات.
وكلاهما يعطل الإنفاق المحمود في الحقوق والخيرات، وكل ذلك يُرضي الشيطان، لذا كان المبذر من جنده وإخوانه.
ويُعدُّ المرء مبذرا بتبذيرة أو تبذيرتين؛ لأنه إذا فعل ذلك اعتاد التبذير وأدمن عليه حتى يصير التبذير له خلقا لا يفارقه، شأن الأخلاق الذميمة يسهل تعلقها بالنفوس.
ولم يقف القرآن في التحذير من التبذير عند هذا الحد، بل أكده ثانيا بقوله :" وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا"
لأن المبذر إذا كان أخا للشيطان، وكان الشيطان لربه كفورا، كان المبذرا لربه كفورا بالمآل ، وهو قياس جار على ما يعرف في علم المنطق بقياس المساواة .
بما يعني أن التخلُّقَ بالطباع الشيطانية يُفضي بالمبذِّر إلى التدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ دَرْك الكفر، سواء أكان الكفر في الآية عقديا أم كفرا للنعمة.
وأما في حال وفرة المال، فأحسن ما ينفق فيه اكتساب الزلفى عند الله ـ سبحانه ـ واكتساب المحامد بين بين الناس .
وقديما قالوا:" نعم العون على المروءة الجدة " أي: وفرة المال.
فاللهم هب لنا حمْدا، وهب لنا مجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال.
بارك الله لكم في أموالكم، وأهلكم، وبارك في مصرنا: أرضِها ونيلِها، سمائِها وجيشِها، قادتِها وعلمائِها، وحفظها من كل مكروه وسوء.