لم أزل أتعجب، وأضرب كَفًّا بِكَفٍّ، من معلقة عمرو بن كلثوم الجاهلي التي ملأها فخرا كاذبا، بل بهتانا فاجرا، يبهت كل من يسمعه، على عادة العرب الجاهليين، أليس هو القائل فيها:
إذا بلغَ الفطامَ لنا رضيعٌ
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا؟!
فأين - يا عمرو - ذهب هؤلاء الرُّضَّعُ الذين تخرُّ لهم الجبابر ساجدين؟!
أم تراهم غرقوا في مياه البحر هربا من جحيم الجبابرة؟!
ثم أليس هو القائل فيها أيضا:
مَلَأْنا البَرَّ حتى ضاق عنَّا
وظَهْرَ البحر نملؤُه سَفِينا؟!
فأيُّ بَرٍّ يضيق بهؤلاء القطعان المتناثرة في تخوم الصحارى، وكهوف الجبال، في نقطة من الأرض لم تصلها أي معاني الحضارة الإنسانية، حتى جاء الإسلام، فأخرجها للناس، بعدما ألَّف بينها، وجعلها أمة واحدة ذات شأن عظيم في العالمين؟!
ولسنا نعلم أن العرب الصحراويين كانوا يركبون البحر إلا قليلا، بل كانوا يخشون ركوبه إلى زمن معاوية رضي الله عنه، حين غزا الروم، فأيُّ بحرٍ هذا الذي ملؤوه سفينا، وهذه أساطيل الأعداء في مياهنا، وطائراتهم في سمائنا، وقواعدهم فوق أرضنا، وايديهم في جيوبنا؟!
ثم أليس هو القائل أيضا:
إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفًا
أَبَيْنَا أن نُقِرَّ الذُّلَّ فينا!
فلينظر اليوم كيف يُساقون إلى حتفهم سَوْقَ القطيع، وقد جَلَّلَتْهُم علائم الخزي والهوان، دون أن تكون عندهم ذرة من كرامة يدفعون بها عن أنفسهم هذا الذل والعار!
وإن تعجب فعجبٌ قولُه:
ونَشربُ إنْ وَرَدْنا الماءَ صَفْوًا
ويَشربُ غيرُنا كَدَرًا وطِينا!
وددت لو بعث الله عمرو بن كلثوم حتى يرى بعينه ماذا يشرب العرب اليوم!