عاشت الدولة المصرية قبل قيام ثورة يوليو 52 في خوف وحذر من الفقراء، خاصة أن هناك تغيرات حدثت في بلاد العالم، فقد ثار الشعب الروسي على حكامه القياصرة عام 1917 بقيادة لينين، واستولوا على الحكم، وغيروا نظام الحياة هناك، أخذوا الأرض الزراعية من أصحابها - الذين كانوا يستعبدون الفلاحين فيها- واستولوا على المصانع أيضا، وقالوا إن العمال الذين يعملون بها هم أحق بملكيتها، فأحست الدول الرأسمالية الأخرى المحيطة بروسيا بالخطر فهاجمتها، وقامت حرب بينهم، لكن استقرت الأمور في روسيا، وضمت إليها أراضي دول مجاورة وتكونت دولة كبرى بإسم الأتحاد السوفيتي، نافست الولايات المتحدة على زعامة العالم.
الأنجليز الذين يكرهون هذه القوانين الإشتراكية، كانوا يحتلون مصر وقتها، ويتحكمون في مصيرها، فأحترسوا من آثار هذه الأفكار، ووصل الأمر لأن يتهموا أي مقاوم للأحتلال الأنجليزي بإنه شيوعي، بل تكونت في كل مديرية أمن، مكاتب لمقاومة الجرائم المتعددة، منها مكتب لمكافحة تجارة المخدرات، ومكتب لمكافحة الرذيلة، ومكتب لمكافحة السرقة، وأيضا مكتب لمكافحة الشيوعية.
تعامل المجتمع المصري بمعاداة كل ما هو فقير. مما جعل طبقة المثقفين تبتعد بل وتعادي ألف ليلة وليلة والأمثال الشعبية، خاصة لما بهما من ألفاظ مسفة قد لا تتفق مع ضوابط السلوك والآداب، بل وعادت طبقة المثقفين أيضا القصص التي تحكي عن الشعب، أو تدور في الأحياء الشعبية الفقيرة. فقد رفضت الجهات الرسمية في مصرعام 1939 أن يُطلق على فيلم، إسم " الحارة " من إخراج كمال سليم، حتى أستبدلوه بإسم " العزيمة "، وكان إسم " الحارة " هو الأنسب فنيا، فالأحداث تدور في حارة شعبية، كما أن الفيلم ينتصر لإبن الحارة الفقير، إبن حلاق بسيط، يحصل على دبلوم عالي ويتفوق على أبناء البشوات. وفي الفيلم لأول مرة: الفران والحلاق والجزار والحانوتي والإسكافي والحداد والموظف الصغير وبنت البلد.
كانت السينما المصرية بعيدة كل البعد عن الروح المصرية، تصور أجواء دخيلة على حياتنا، تعتمد قصصها على الإقتباس ولا تصور من حياتنا سوى الطبقة الأرستقراطية التي تسكن القصور، وتبتعد عن معالجة المشاكل الإجتماعية.
وقد عرض فريد شوقي في 23 يونيه 1952 فيلمه الأسطى حسن – بدار سينما رويال. وهو أول فيلم من إنتاجه، وقت أن عرض أنور وجدي فيلمه الجديد مسمار جحا بدار سينما الشرق، لكن أحداث فيلم الأسطى حسن - التي تدور في حي شعبي - شدت النظارة، فنجح الفيلم نجاحا غير متوقع وحقق إيرادات عالية، بينما لم يحقق فيلم أنور وجدي مسمار جحا أي نجاح فما أن أدرك أنور وجدي ان فيلم فريد شوقي يجذب العدد الأكبر من المشاهدين حتى سارع الى تقديم شكوى الى جهاز الأمن المصري الذي كان يعرف زمن الملك فاروق بالبوليس السياسي- قسم القلم المخصوص بوزارة الداخلية - يتهم فيها فريد شوقي بأن أحداث فيلمه تدور في حي شعبي، بل وفكرة الفيلم تنتصر لهذا الحي الفقير على حساب حي الزمالك الراقي والغني، مما يؤكد أن فريد شوقي يروّج في فيلمه الأسطى حسن للشيوعية، فتم إيقاف عرض الفيلم على الفور ولم يُفرج عنه الا بعد قيام ثورة يوليو 52، وحينما علم فريد شوقي بأن أنور وجدي هو المتسبب في منع فيلمه من العرض، عاتبه، فأجابه أنور وجدي قائلاً:
- أُمّال تنـزل أنت تأكل السوق وأنا أخسر! أنت حتتأخر شوية أكون أنا لمّيت فلوسي وجبت ثمن الفيلم.
والمصريون والعرب لم يهتموا بالأمثال الشعبية – كما لم يهتموا بحكايات ألف ليلة وذلك من نظرة التعالي نحو هذه الفنون فهي لم تجذب مثقفو هذه العصورالذين كانوا عاكفين على الثقافة الدينية والإهتمام بالشعر والنثر الفني لأنهما ينبعان من طبقة إرستقراطية في الأدب بينما ألف ليلة وليلة هو مجرد كتاب شعبي تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته؛ فهو كالشعب. وكل شيء للشعب قد لقى من جفوة الخاصة وترفع العلية أذيً طويلا، أغفله الأدب فلم يتحدث عنه، وأحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه.( أحمد حسن الزيات ص 42 كتاب في أصول الأدب الجزء الأول))
لقد ترفع أدب الخاصة عن أدب الشعب، فأنفرد الأول برفعته، وأنتظم الأدب الشعبي سائر النفوس، فأخذ بمجاميع قلوب الخاصة والعامة على السواء.( أدب الشعب – حيرم الغمراوي – كتب للجميع )
فألف ليلة وليلة عبارة عن ديوان يجمع حكايات الشعب المتداولة في البيوت والمقاهي وعند العمل في الحقل أو أماكن التجارة المدن، فأصل الحكاية المستمد منها حكاية " علي بابا والأربعين حرامي "؛ كانت النسوة تحكيها لأطفالها في القرى والأحياء الشعبية.
ومزية الأمثال الشعبية إنها تنبع من كل طبقات الشعب، غير الشعر والنثر الفني اللذان لا ينتسبان إلا للطبقة الإرستقراطية في الأدب. فالعجائز في البيوت تؤلف الأمثال، وطبقة الفلاحين تنبع منها أمثال عميقة، معبرة، وكذلك طبقات الصناع والتجار وغيرهم. ونظرة التعالي لكل ما هو فقير؛ جعلت طبقة المثقفين تبتعد بل وتعادي ألف ليلة وليلة والأمثال الشعبية، خاصة لما بهما من ألفاظ مسفة قد لا تتفق مع ضوابط السلوك والآداب، بل وعادت طبقة المثقفين أيضا القصص التي تحكي عن الشعب، أو تدور في الأحياء الشعبية الفقيرة.
وآية هذا الأدب الشعبي إنه خُلق ليعيش، ولديه القوة على الحياة لأنه جزء منها، فهو ينتقل من جيل لجيل، تحمله القلوب أو توحي به (أدب الشعب – حيرم الغمراوي – كتب للجميع)
ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات أيضا: فلما حقق العصر الحديث تغلُّبت الديمقراطية وسيادة الشعوب، وأستتبع ذلك عناية الرومانتيكيين في الغرب بحياة السوقة والدهماء، عنايتهم بحياة الملوك والنبلاء؛ أخذ أدباؤنا يعطفون على أدب السواد، وسمعوا في رجفة الدهش إلى قول الأوربيين إن في أدبنا الموروث كنزا دفيناً. (في أصول الأدب الجزء الأول – أحمد حسن الزيات.)
وهذا ما أدى إلى أن تسمح الرقابة – التي كانت تابعة لوزارة الداخلية – إلى السماح بإظهار جمال وحسن الأحياء الشعبية، وكان هذا ممنوعا قبل قيام ثورة يوليو 52.